في المجتمع السعودي عشرات المثقفين والمثقفات والعلماء والمفكرين، يطويهم الصمت، ويملكون حلولاً جذرية في أزمات المجتمع الفكرية والاقتصادية والسياسية.. مثقفون ومثقفات وعلماء أذكياء وباحثون في مختلف العلوم، يحملون أرقى الشهادات في أق التخصصات، مع الخبرة والتجربة، وبعضهم على دراية بأدق أنظمة السياسة والاقتصاد في العالم، ولديهم أجوبة حول سؤال: أين المشكلة؟ وكيف حلها؟ لكنهم في معترك حياتهم داخل الوطن آثروا الصمت والانشغال بأنفسهم، وارتضوا الظل بعيدا عن أشعة السلطة الحارقة! لا يسمحون لأنفسهم بالاصطفاف في الاتجاهات السياسية أو الفكرية ولا يرتضون الظهور الإعلامي في سقف محدود. علاقتهم بالدولة علاقة: لا أرى لا أسمع لا أتكلم، وهي علاقة وظيفية لا أكثر.. هل هم سلبيون؟ هل هم أنانيون؟ سأحاول في هذه العجالة أن أبحث عن داء صمتهم وقلة حيلتهم. الدولة تمتلك القوة والمال والسجون والمعتقلات ومؤسسات الإعلام والجهاز الديني والصحف والقنوات.. تمتلك كل أدوات التأثير، وأدوات منع التأثير.. وهي أدوات الدولة في علاقتها بالمواطن.. وهذه الأدوات هي ذاتها التي شكلت أسس العلاقة بين الدولة والمثقف.. لم تكن العلاقة بين الدولة والمثقف من خلال المؤسسات المدنية، بل كانت علاقة بين مثقف فرد ودولة بمؤسساتها المختلفة.. وأجهزتها التي تحمي سياساتها.. بين مواطن فرد وحيد يرى نفسه أمام أجهزة ومؤسسات الدولة. وفي ظل هذه المعادلة تشكلت علاقة الرهبة والخوف، وعلاقة التوجس والريبة بين الطرفين، انتهت إلى (شعب) مشغول بلقمة عيشه، و(مثقف) مشغول بذاته.. مثقف يرى هويته خارج وطنه.. مثقف مشغول بالتطاحن مع مواطن بائس مثله، كلما أطل برأسه، أطلت له أجهزة الدولة، فهو إن أبدى نقداً أبداه مستحضراً بأس الدولة التي لا ترى إلا رأيها وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. السلطة تعتمد اعتماداً كلياً على ثقتها برأيها، وتهميش ما حولها، فإن أراد المثقف إبداء رأيه، فلا بد له أن يتعلم كيف يبدي رأيه، أو كما قال ابن المقفع: ” تعلمهم وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنهم يؤدبونك، تشكرهم ولا تكلفهم الشكر، بصيراً بأهوائهم، مؤثراً لمنافعهم، ذليلاً إن ظلموك، راضياً إن أسخطوك…” الأدب الصغير والأدب الكبير ص142. كانت الدولة ولا تزال لديها القناعة التامة بأدواتها في إدارة شؤونها مهما اختلفت الظروف. لقد بقيت قناعة الدولة بأدواتها لم تتغير، وهي اليوم تسعى جاهدة لكي لا تتغير. لقد تكاثرت الأزمات الفكرية والسياسية والاقتصادية وظلت أدوات الدولة ثابتة. لقد تغير العالم وتطورت أدوات التقنية تطورات هائلة في كافة أشكال النصيحة والعمل والعلاقة السلمية بالدولة، وظل الشيخ والعالم والداعية والإعلامي ومثقف السلطة في مؤسسات الدولة يرددون أهمية الصبر، والدعاء، والنصيحة عبر الفاكس والعرائض والبرقيات، والأبواب المفتوحة، والله لا يغير علينا. حتى انتهت علاقة المثقف السعودي بالسلطة إلى خيار المهادنة، وإلا فكل أشكال العلاقة الأخرى تنتهي بالمثقف إما إلى العزلة أو إلى الزنازين أو إلى إغراق السوق الثقافية بسلع معرفية رديئة. قد نستطيع بإيجاز حصر مؤسسات الدولة التي تتعامل مع الرأي والمثقف في ثلاثة أجهزة رئيسة وهي: أولاً: الجهاز الديني الرسمي، ويمثل الدرع الأيدلوجي للدولة، ومن وظائفه الأساسية تطويع الناس بالنصوص الشرعية لولي الأمر، ووجوب مناصحته في السر، والصبر على جوره واحتمال أذى السلطان، استناداً لنصوص وآثار كثيرة عن السلف تنهى عن مكاشفة الحاكم وتأمر بوجوب الصبر عليه. وتم تصدير تلك النصوص مع تجاهل نصوص أخرى قرآنية ونبوية تدفع إلى مواجهة الظلم: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)، (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)، (لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا..) وحديث: لا قدست أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها وهو غير متعتع.. الخ إن بنية الجهاز الديني الرسمي وغير الرسمي في الجملة قد جُهزت لمحاصرة أكثر أصناف المثقفين ممن لديهم طموحات في إصلاح سياسي أو إصلاح حقوقي أو إصلاح نهضوي وفكري.. واعتبار أكثر الجهود الإصلاحية في الحقوق والنهضة والسياسة محل ارتياب وشك، أو علمانية وتغريب، وربما زندقة وكفر. المدرسة الدينية الحالية -ذات التصورات المختزلة عن الإسلام- تعتبر خطابها الممثل الأوحد للإسلام واعتبار بقية المذاهب إما من الفرق الضالة المشمولة بحديث الفرق، وإما تهميش غيرها من المذاهب من خلال احتكار الفضاء العام بوسائل مختلفة أهمها السيطرة التامة على جميع الوظائف الدينية والمناصب الكبرى ذات النفوذ، والتي تستطيع من خلالها محاصرة كل أصناف المثقفين وفرض المذهب والتصور المحدود عن الإسلام. إضافة إلى ذلك فالجهاز تخلى منذ بداياته عن الإصلاح السياسي والحقوقي والنهضوي، ووقف ضد بعض المبادرات الإصلاحية التي أدخلتها الدولة، وقام بفصلها عن معنى تطبيق الشريعة، وبقيت السياسة والحقوق والنهضة منطقة فراغ، لا يحق لأحد الاقتراب منها مالم يكن على صلة بالجهاز السياسي أو بتوجه الجهاز الديني وتصوراته. وأصبح من مهام الجهاز: التصدي لموجات المثقفين وشيطنة الدعوات الإصلاحية وربطها بالتغريب والفساد والإلحاد والزندقة… لتتفرد هي بالفضاء العام، وبتحديد مفهوم الإصلاح الذي يتآلف مع بقاء الآلة السياسية بمطلق السيادة ودون أن يتعارض مع المكاسب الدعوية. ثانياً: الجهاز الإعلامي وهو الناطق الرسمي للدولة، فليس من وظائفه فتح المجال ليمارس المثقف دوره في نقد سياسات الدولة، ومؤخراً صدر نظام الجرائم المعلوماتية لمحاصرة وسائل النشر الحرة التي تمنح المثقف سياحة حرة لأفكاره. ثالثاً: الجهاز الأمني وهو عصى الدولة. وله أساليبه المختلفة في التعامل مع المثقف المتمرد، إما من خلال القطاع الحكومي الذي ينتمي له المثقف بالتحقيق معه وتهديده بطي قيده من عمله، وإما بالتحقيق معه في أجهزة التحقيق والمباحث، وإما باعتقاله وإيداعه السجون والزنازين والحكم عليه في المحاكم الأمنية. من خلال هذه الأجهزة يمكن أن نُبصر علاقة المثقف السعودي بالدولة بصورة أوضح فهي علاقة فرد بقوة، وهذه القوة كما يفسرها فوكو هي قوى مختلفة ومتفاوتة تنتج منها سلطات مادية ومعنوية ومؤسسات خاصة. وهذه القوى الوظيفية مسؤولة عن حراك المجتمع الإعلامي والفكري والإصلاحي والحقوقي والسياسي. وهي أجهزة رقابية تراقب وترصد وتعارض ما يخالف سياسة الدولة في الداخل والخارج، فهي مؤسسات تضبط سلوك المواطن وتضبط طموحاته، في مقابل عدم وجود مؤسسات مدنية للمثقف.. هي أجهزة في مقابل مثقف فرد لا تظلله مؤسسة وليس له سبيل ليقدم نصحه ودراساته المستقبلية عبر افتتاح مركز أو جمعية أو حتى موقع حر.. لقد تيقن المثقف خارج دائرة السلطة أن قناعاته الفكرية مهددة ما لم تكن في إطار أجهزة الدولة أو في فلكها، وأن أبحاثه ومقالاته ومرئياته العلمية وحلوله للأزمات لا سقف لها سوى سقف بيته وغرفة نومه، يغرّد فيها: (يا ليل ما أطولك)!! أدرك أن في وطنه حصاراً ينتظره متى قال كلمة أو رأياً خارج العرف السياسي والديني والإعلامي المألوف. وفي ظل دوران المثقف بين هذه الأجهزة حُرم من التنعم بعلمه، وحرمت الدولة من سماع الحقيقة، وكُتب على المجتمع الجمود، وقضاء العمر بالجدل، والبحث عن آخر طرفة أو التطاحن الفكري بين الشعب والشعب! ظلت الدولة في حالة شك وحذر وارتياب من رأي المثقف المحايد الذي يرفض الانصياع أو الاصطفاف، ويرفض المجاملات والجوائز والأوسمة. مهما حاول المثقف رفع صوته بالتغيير ازدادت قناعة الدولة بأدواتها نظراً لطول تجربتها السياسية في الاعتماد عليها في تحقيق الأمن أو الاستقرار السياسي، وتولد لديها مع طول المدة أن المتغيرات لا تؤثر في الثوابت السياسية. لقد ظلت تلك الأجهزة مدافعة عن الدولة في البأساء والضراء، وظلت في مسار واحد يردد ذات الجمل دون ملل أو كلل، وهي أجهزة لم تخلق للرأي بل لمراقبة الرأي فالرأي لا يمكن أن يولد إلا في ظل بيئة حرة. والرأي يولد على يد مثقف محايد آمنٌ في سربه. وصناعة الرأي لا تكون عبر أجهزة الدولة، فالدولة لا ترى نفسها إلا من خلال المجتمع، والمجتمع لا بد له من تمثيل عبر مؤسسات تجمع شتاته، فمصدر الرأي من جهات علمية مستقلة وليست أجهزة وظيفية، والرأي لا يولد تحت ظلال السيوف والحسابات المعقدة، ولذلك ستظل الدولة محرومة من رأي المثقف والمفكر ما لم توفر أعلى درجات الأمان التام ليبدي رأيه، فإن لم توفر الدولة مؤسسات ونقابات وجمعيات حرة للمثقفين، فالمثقف الحر والمثقف الصادق مع وطنه هو كما يقول أدوارد سعيد من يقوم بدور اللامنتمي، ويحاول تحطيم القوالب الجامدة والأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيوداً شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل ما بين البشر. المثقف الحق هو من يقاوم جميع أنواع السلطة وجميع أشكالها، فإن ما يمثل وعي المثقف أو المفكر هو روح المعارضة لا القبول والتناغم، فما تتسم به الحياة الفكرية من جاذبية وتحديات يكمن في مواجهة الوضع الراهن” وفكره وثقافته السائدة. المفكرون الحقيقيون، كما وصفهم جوليان بندا: “أقرب ما يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم المشاعر.. الجياشة والمبادئ السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة المعيبة الغاشمة”.