[email protected] التعليقات التى وردت على المقال السابق بعنوان "فى إيران شعب يتمتع بالحرية ويمارسها.. كيف وما هى الضمانات ضد الاستبداد" والذى حاولنا فيه فى عجالة عرض بنية النظام السياسي فى جمهورية إيران الإسلامية، تجعلنى أتوقف قليلا أمامها لتفنيدها واستخلاص المعانى المهمة فيها قبل متابعة الكتابة عن التجربة الإيرانية.. فالتعليقات التى أعنيها أتت على طريقة جمهور مشجعى فرق كرة القدم .. فهى تنظر بعين واحدة على واقع متعدد الأبعاد والزوايا.. تغلب عليها الحماسة وغياب العقل.. تفتقد إلى التهذب وأدب الحوار، بل إن بعضها والذى يبدو أن أصحابها لم يكملوا قراءة المقال لنهايته كانت مجرد سباب لا علاقة له بما كتبت.. والملاحظة الأخيرة قبل الدخول فى الموضوع هى تكرار التعليقات والسباب لعشرات المرات من نفس المعلق وكأنه يتشاجر فى الشارع.. وما يهمنا هنا أن نصل من هذا كله لرؤية موضوعية لحالة الغيبوبة الفكرية التى تعكسها تلك التعليقات، ومدى تناقض هذه الحالة مع مصلحة الأمة. أولا: لماذا نكتب عن إيران الإسلامية!! منذ إنهيار دولة الخلافة الإسلامية وحتى قيام ثورة الخمينى فى إيران، لم تقم أية دولة بمحاولة تنظيم المجتمع على أسس تستند إلى القواعد والثوابت الإسلامية، فى الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وكافة أنشطة المجتمع، وإيا كان الخلاف المذهبى بين السنة والشيعة، فإن دراسة هذه التجربة والاستفادة منها وتصحيح مسارها إن أمكن، حينما تخطئ.. ولكل التجارب الإنسانية أخطاؤها، هو واجب على كل من يهتم بأمر المسلمين.. كل المسلمين. أن الهجمة المعلنة من دول البغى والاستكبار الغربى وعلى رأسها أمريكا والكيان الصهيونى، لا تستهدف بعض الأمة وتتغافل عن بعضها، وأن الخطة المعلنة للنيل من الأمة هى تفكيكها بأكثر مما هى عليه من تفكك، وزرع بذور الفتنة بين أجزائها وأقوامها لاستنزاف قواها فى حروب داخلية وطائفية ومذهبية وعرقية لإضعافها، تمهيدا للإجهاز عليها، وخاصة البؤر المقاومة فيها والتى تمثل مكامن القوة الوحيدة الباقية لها بعد أن روضت النظم والحكام، أو استأجرتهم. أن حالة التحزب الأعمى للمذهب والتى تعمل على إضرام نارها دول "منها دول عربية ويحكمها (مسلمون).. والعديد من دول الاستكبار"، قد وصلت إلى حد لابد من مواجهته لمصلحة الأمة فى مجموعها ولنصرة الدين الحنيف، خاصة وهم يستخدمون فى مخططهم الغيرة المحمودة على الدين ويحرفونها عن الطريق القويم، ويخلطون الأوراق بحيث يتغلب المذهبى على الأصل العقائدى فى الحوار، فقد استبدل الحوار بين فقهاء المذاهب، إلى حوار مع الفاتيكان، والصراع مع الفاتيكان الذى نظم وحشد للحملات الاستعمارية على بلادنا، إلى صراع بين عوام المسلمين الذين ينتمون إلى المذاهب المتعددة، يؤججه من آن لآخر فتوى من هنا أو مقال من هناك، بينما دماء المسلمين تسيل بفعل هذه اللعبة الشيطانية، وبأفعال منظميها المباشرة، فى العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال والسودان ولبنان وكل أرض المسلمين. أننا نكتب منطلقين من إسلامنا أولا وأخيرا وننظر إلى المذاهب "كل المذاهب" باعتبارها رؤى توضح سعة هذا الدين العظيم، وتعددية فى إطار الوحدة تسمح بالتيسير فى العسر، وتوسيع مجال الرؤية، وتعطى للعقل الجمعى فرصة أفضل للتدبر فى أمور الدنيا منطلقا من المرجعية الشرعية. أن القوة التى تتحقق لأى من أقطار الأمة الإسلامية هى رصيد استراتيجى لهذه الأمة فى معركتها حتى وإن كانت وبالطبع ستكون هناك خلافات بيننا وبين سياسات هذا القطر أو ذاك من أقطار الأمة، فهذه القوة هى رصيد لمعركة مفروضة قادمة لا اختيار فيها " كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون"الآية 216 من سورة البقرة " صدق الله العظيم. أن الهجمة على الإسلام تستهدف أول ما تستهدف أن تجعل المسلمين يفقدون الثقة فى قدرة هذا الدين على تنظيم وإدارة وقيادة الحياة، ليتبنوا مناهج علمانية تؤكد تبعيتهم، وتثبت الخلل فى موازين القوى بين الأمة وأعدائها، ونجاح التجربة الإيرانية فى إحداث نهضة فى كل مناحى الحياة المدنية والعسكرية، يؤكد أن اتباع المنهج الدينى فى سياسة الحياة، والارتكاز إلى العقيدة فى بناء الإنسان، هو السبيل الوحيد لتجاوز الخلل فى ميزان القوى بيننا وبين دول الاستكبار. ماذا تقول التعليقات والرسائل.. بداية أعتذر عن عدم نشر العديد من التعليقات لاحتوائها على ألفاظ لا يليق تداولها تداولا عاما.. وبعضها الآخر لكونه توصيف للكاتب سواء بالخير أو غير ذلك، ومعظمها غير ذلك، دون أن تتعرض للموضوع. ونحمد الله أن الخير فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين، فحوالى 40% من الرسائل والردود والتعليقات وهى نسبة مقدرة قرأت الموضوع قراءة كاملة وأعرب أصحابها فى ردودهم عن فهم لمغزى وهدف المقال فناقشوا كيفية الاستفادة من التجربة الإيرانية، أو استدلوا منها على إمكانية تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية فى ظل الحصار والحروب، أو ناقشوا الفروق ما بين النظم العلمانية والنظم ذات المرجعية الدينية، أو انتقدوا بعض الأداء السياسي لإيران الذى يرونه غير صائب فى بعض القضايا منطلقين من المرجعية التى نتفق عليها جميعا "الكتاب والسنة"، وأنا اتوجه لهم بالعرفان فقد استفدت أيما استفادة من ردودهم وتعليقاتهم. النسبة الباقية ومنها حوالى 45 % تعرفت من المقال على واقع الحياة فى إيران، أو بعض جوانبها بعيدا عن ما تروجه وسائل الإعلام الغربية وتوابعها العربية، وبعيدا عن الإعلام المذهبى المندفع سواء بالغيرة الجهولة على المذهب وبإعلاء الجزئى على الكلى، أو الإعلام المذهبى الموجه من الغرب ضمن إطار خطة شرزمة الأمة، وهو ما يعكس مدى تسيد وهيمنة الإعلام الغربى على إعلامنا وعقول أبناء أمتنا، وهنا لابد من ملاحظة أن هذا الإعلام حينما قسم العراق إستخدم التفرقة المذهبية بين السنة والشيعة، بينما استخدم التفرقة على أساس العرق بين العرب السنة والأكراد السنة، فالهدف هو مزيد من تمزيق جسد هذه الأمة بصرف النظر عن الذرائع. حوالى 3 % من الردود والتعليقات جاءت من أبناء المذهب الشيعى وقد اعتبروا ما جاء بالمقال محاولة مشكورة لرأب الصدع بين أصحاب المذاهب المتعددة فى الأمة وطالبوا بأن يكتب إخوانهم فى المذهب عن مناطق السنة، كما طالبوا بفتح حوار بين فقهاء المذهبين بدلا من الحوار مع أصحاب الأديان الأخرى، معربين عن ثقتهم فى إمكانية جمع الأمة على كلمة سواء، وهو ما نأمله جميعا، بل هذا هو الهدف المرتجى بعد وجه الله من كل ما نكتب. أما النسبة الباقية وهى 12 % ( مع ملاحظة أن منها حوالى النصف تعليقات متعددة لنفس الأشخاص ) فما يميز تعليقاتها وأكرر بعيدا عن السباب والاتهامات بالعمالة والارتزاق التى تلقى جزافا أنها سلبية فى كل الجوانب حتى بالمفهوم الطائفى، فلم تثر الانجازات التى ذكرناها فى المقال غيرتها بحيث تعمل على رفعة "جانبها"، أو أن ترى سلبيات من يحسبون علينا من حكام أهل السنة والسنة المشرفة منهم براء، كان كل هم هذه التعليقات أن تنفى إمكانية أن يكون "الفريق" الآخر قد حقق شيئا، أو أن يكون قد أجاد الأداء، وأن تؤكد عدائها لأصحاب المذهب الشيعى أولا قبل الصهاينة والأمريكان الذين يعلنون ويمارسون العداء بأقصى أشكاله قتلا وترويعا واعتقالا وتشريدا على كل رقعة الأمة الإسلامية، بل على رقعة المعمورة كلها!!، وهم أيضا ينفون أية إمكانية للتلاقى بين أتباع المذهبين، مستبعدين أن تلتئم جراح الأمة برد النزاع إلى الله سبحانه وتعالى والرسول عليه الصلاة والسلام "مرجعية أصحاب المذهبين"، بل يصل بعض أتباع الفريقين.. ولا أقول المذهبين.. إلى تكفير أتباع الفريق الآخر، خلافا مع ما استقر عليه علماء الأزهر والأمة جمعاء، وصحيح الدين، الذى يرد الكفر على من يكفر المؤمنين.. ومن المهم ملاحظة أن معظم كتاب هذه التعليقات لا يجيدون الكتابة.. أقصد من الناحية الإملائية.. والقليل منهم هو الذى يعرف مقصده مما يكتب، وهذا القليل ينسب كل البلاء الذى تعانى منه الأمة للدولة الإيرانية، فى محاولة مشبوهة لتبرئة الصهاينة والأمريكان من دمائنا، وتبرئة الحكام المتخاذلين من إخفاقاتنا، وتبرئة النظم المهترئة من تبعيتنا الذليلة والمهينة. إلى هؤلاء الذين ينفعلون غيرة على الدين إلى حد تقديم المذهب على أصل العقيدة، إلى الذين يدفعهم المغرضون لتقديم الجزئى على الكلى، إلى كل أبناء المذاهب المتعددة، وإلى أمثالى الذين يرون فى كل المذاهب خير ما لم تخرج على أسس العقيدة، ويرون فى أصل العقيدة كل الخير.. إلى هؤلاء جميعا أقول.. أن فى جمهورية إيران الإسلامية تجربة تقدم إمكانية للإنعتاق المستند إلى قوة العقيدة، وهى ككل التجارب البشرية لابد وأن يكون بها نقص "فالكمال للواحد القهار"، ولكنها بكل المقاييس تجربة مهمة لمستقبل الأمة ويجب دراستها والتعلم منها، وتقويمها بالتناصح، وهى رصيد هام فى مستقبل الصراع مع أعداء الإسلام.. ولا أقول المسلمين.. وأن أية جهود تهدف إلى تجزئة هذه الأمة بسنتها وشيعتها وتفريق كلمتها، وأيا ما كانت النوايا والدوافع التى تقف خلفها، هى أعمال تصب فى صالح أعدائنا الاستراتيجيين وترفع من تكلفة النصر الذى وعدنا الله وهو آت بلا ريب. ونعود إن شاء الله إلى ماذا يحدث فى إيران لاستكمال ما بدأناه من محاولة للفهم والاستيعاب والتعلم والتناصح فى المقال القادم.