فى رسالتى الأولى من طهران مررت سريعا على الصورة العامة لأوضاع التوازن بين جمهورية إيران الإسلامية والحلف الصهيونى الأمريكى، واحتمالات وقوع هجوم صهيونى أو أمريكى فى محاولة توجيه ضربة إجهاضية للتطور المادى والبشرى المذهل فى الجمهورية الإسلامية، وخلصت إلى أنه بالرغم من رغبة الحلف الصهيونى الأمريكى الشديدة فى القيام بهذه الضربة، إلا إن مجمل الأوضاع فى المنطقة والعالم، وحركة القوى الكبرى ( الاتحاد الروسى، والصين، والهند، واليابان، وحتى الاتحاد الأوروبى بدرجة ما)، لا تصنع ظرفا مناسبا لمثل هذه الخطوة.. وهنا فإن من التقصير الشديد فى العرض أن لا نؤكد على الدور الأساسي للمقاومة العراقية والأفغانية ولهزيمة الجيش الصهيونى أمام حزب الله، ولصمود سلطة حماس واصطفاف الشعب الفلسطينى خلفها رغم كل الضغوط، فى إحداث حالة التراجع المتخبط للهجمة الأمريكية الصهيونية، وإعطاء الوقت والظروف المناسبة لإيران للخروج من عنق الزجاجة إلى رحابة الساحات المفتوحة للمواجهة والتى تسمح بالمناورة والتقدم والتراجع مع المحافظة على الاتجاه.. ولابد بعد هذه العجالة من الإجابة على السؤال الهام.. كيف وصلت إيران إلى تحقيق هذه الدرجة من النمو والقوة المنيعة التى تشكل رادعا ضد "أقوى جيوش العالم وحليفه الصهيونى" ؟!
إبحث عن الإنسان..!! إيران بلد عاش تحت الاستبداد الشاهنشاهى طويلا، ولعل أواخر الحقبة الشاهنشاهية كان أسوأها، فقد أعمل الشاه محمد رضا بهلوى القتل والتنكيل فى الشعب الإيرانى وأطلق لذئاب السافاك العنان ليفعلوا ما لا يصدق بمجاهدى الشعب الإيرانى، ولعبت الحوزات "المعاهد الدينية" والمساجد دورها فى التوعية والتعبئة حتى انتصرت الثورة، تلك الثورة التى لم تعش سلطتها يوما واحدا منذ انتصارها دون حرب أو حصار، أو تهديد بالحرب، أو تآمر مع بعض القوى الداخلية لزعزعة الأوضاع وتهديد الاستقرار.. فكيف تأتى لهذه السلطة أن تحقق كل ما حققت من تقدم مادى والذى سنعرض بعضه فى الرسائل القادمة إن شاء الله ؟! الأمر يتعلق بمسألة بناء الإنسان والتى بدأت منذ اليوم الأول للثورة وترجمت إلى نظام سياسي يضمن عدم استبداد أيا كان بالسلطة ويضع أمام كل سلطة معادلها ومراقبها ومراجعها، ويضع الشعب فوق كل السلطات، ويستمد منه الشرعية كل يوم ومنذ اليوم الأول.. والتى لخصت فى تسمية "الجمهورية الإسلامية". منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة أصر الإمام الخمينى على إن لا يعتمد على الشرعية الثورية فى إقرار نظام الحكم والدستور، فطرح النظام الأساسى لتنظيم مؤسسات الحكم وخاصة مسألة ولاية الفقيه على استفتاء شعبي "حقيقي" شهد إقبالا ومشاركة لم تعرفها أية عملية إقتراع فى أى دولة فى التاريخ الحديث، ورغم السمة الإسلامية الواضحة للثورة والتى لا يتنازع عليها أحد حتى من غلاة الخصوم، فقد كانت المرجعية الإسلامية للحكم هى البند الرئيس فى هذا الاستفتاء، لقد أصر قائد الثورة الإيرانية فى اللحظة التى تتيح الانفراد بالقرار والحكم على أساس الشرعية الثورية، أن يكون القرار والحكم للشعب، وأسس بذلك لنظام يكفل الحريات ويمنع الاستبداد بكل أشكاله، بما فيها إستبداد الصفوة السياسية المعروف بالديمقراطية الغربية، وهو ما انعكس على بنية النظام السياسي الإيرانى منذ اللحظة الأولى وحتى الآن، وما يزال يتعمق ويترسخ، لقد أدرك الإمام الخميني بتجربته الطويلة وفهمه لتاريخ ردة الثورات، أن الضمانة الأساسية والوحيدة لاستمرار الثورة وتسلحها بمضادات الردة هى منع كل إمكانية للاستبداد بالسلطة وبناء الإنسان المؤمن المنتمى القادر على الدفاع عن حقوقه ومكتسباته، وأن يحقق النظام للقوى والمصالح الاجتماعية المتعارضة فرصة التدافع المضبوط بالمصلحة العامة لعموم الناس والأمة، إنه نظام يهدف فى الأساس وقبل كل شيء لبناء الإنسان.. وقد جاء هذا استنادا إلى المقاصد الشرعية وأسس الدين الإسلامى الذى كرم الإنسان وجعله غاية النشاط والتنظيم فى كل المجالات.
تنظيم الدولة على أساس منع أية إمكانية للإستبداد: الناخبون.. وهم أعلى سلطة فى النظام.. ويقوم الشعب بالانتخاب المباشر لمجلس الخبراء ورئيس الجمهورية ومجلس الشورى الإسلامى "البرلمان" ويتألف من 290 عضوًا يتم انتخابهم وفقاً لنظام المحافظات، ومدة الدورة أربع سنوات، كما أن هناك خمسة مقاعد محجوزة للأقليات غير المسلمة على النحو التالي: مقعد لليهود مقعد للمسيحيين الآشوريين والكلدانيين مقعد للزرادشت مقعدين للمسيحيين الأرمن. ويعتمد النظام الإيراني اللامركزية حيث تقرر المادة المئة أن "تتم إدارة كل قرية أو ناحية أو مدينة أو قضاء أو محافظة بإشراف مجلس شورى ينتخب أعضاؤه من قبل سكان تلك المنطقة". وينتج منها ما يطلق عليه بمجلس الشورى الأعلى للمحافظات الذي يضم ممثلين عن كل المجالس الإدارية المنتشرة في جميع المحافظات. إضافة إلى ذلك فإن هناك مجالس ذات صبغة بيروقراطية تتصل بالمؤسسات التعليمية والخدمية والإدارية. وتهدف هذه الآلية إلى تفعيل دور مجلس الشورى الذي يحاول أن يكون له اتصال مع التجمعات السياسية والمدنية على كافة المساحة الجغرافية لإيران. مجلس الخبراء.. ويضم هذا المجلس 86 عضوا يتم انتخابهم عن طريق الشعب مباشرة، ومدة العضوية فيه ثماني سنوات.. وينتخب المرشد الأعلى ( وله حق عزله) ويختار المرشد الأعلى بدوره أعضاء مجلس صيانة الدستور وعدد الأعضاء فيه 12 عضوا ستة منهم معينون من قبل المرشد والآخرين من خبراء القانون ينتخبهم مجلس الشورى من قائمة أسماء مقترحة من مجلس القضاء الأعلى، وهذا المجلس هو صمام أمان لعدم استفراد السلطة من أي جهة، حيث أن لمجلس الشورى رفض قرار مجلس صيانة الدستور في حال اعتراض الأخير عليه.. وبالتشاور مع مجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور يختار المرشد الأعلى أعضاء "المجلس الأعلى للأمن القومى، وقادة القوات المسلحة، ، ورئيس القضاة. ومجلس تشخيص مصلحة النظام والذى استحدث من خلال تعديل دستوري تم في عام 1989 نظرا لتكاثر القضايا التي تقع في حدود المرشد والتي يحتاج في سبيل استصدار قرار بشأنها إلى مجموعة من الخبراء بالمصالح العليا للدولة ، ويضم 34 عضوا يعينهم مرشد الثورة لمدة ثلاثة سنوات. وفقا للمادة 110 من الدستور ليست هناك صلاحيات تشريعية ممنوحة لهذا المجمع، إلا أن أهميته تنبع من حيث يعتبر الهيئة التي تنظر في الخلاف الذي ينشب بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور. وبالرغم من أن سلطاته تبقى استشارية ولا تعتبر قراراته ملزمة للمرشد، إلا أن هذا المجلس يتمتع بوزن حقيقي مؤثر فى الرأى العام يتفق وأوزان أعضائه من الخبراء والفقهاء ويمثل قوة ضغط حقيقية فى حالات الخلاف مع المرشد الأعلى. الرئيس ومجلس الخبراء ومجلس الشورى الإسلامى، وهى ثلاثة جهات منتخبة مباشرة من الشعب، ومعها مجلس صيانة الدستور يقومون بعمليات الفرز والرقابة والتنقية لكافة التشكيلات التى تختار فى المواقع المختلفة. وقد اتجه النظام السياسي الإيرانى عقب وفاة الإمام الخميني لتعظيم مشاركة مجلسي الخبراء وصيانة الدستور فى قرارات المرشد الأعلى، وقد كان الخمينى يحرص على هذه المشاركة فى كل القرارات ترسيخا لدورها المؤسسي، إلا فى بعض الحالات الاستثنائية الحاسمة التى اقتضت فيها الضرورة أن ينفرد بإصدار فتاوى وقرارات تتعارض مع بعض أو معظم أعضاء المجلسين "حالتى قبول إنهاء القتال مع العراق، وفتوى تحليل الفنون والموسيقى ولعبة الشطرنج".
السلطة القضائية.. صلاحيات واسعة: تتمتع السلطة القضائية في إيران بنفوذ واسع حيث يسيطر عليها رجال الدين خاصة في مستوياتها العليا التي لا يتبوؤها إلا الذين يصلون إلى مرحلة الاجتهاد في اغلب الأحيان. وتنبع قوة هذه السلطة من ثلاثة مصادر رئيسية: ديوان العدالة الإدارية.. يراقب هذا الديوان سير العمل في الدوائر الحكومية من خلال متابعة ما يصدره المسئولين التنفيذيين من قرارات ولوائح وأوامر إدارية تنظيمية، ويراجعها مع القوانين ومواد الدستور. كما يستطيع المواطنين تقديم تظلماتهم وشكواهم من الجهات التنفيذية إلى هذا الديوان مباشرة للبت فيها بأحكام نافذة.
منظمة التفتيش العام.. تقوم هذه المنظمة بمهمة الإشراف على تطبيق القانون بشكل صحيح وذلك من خلال خبرائها المتصلين برئيس السلطة القضائية. وهي ليست هيئة تصدر الأحكام وإنما ترفع ما تجده من تجاوزات للدستور والقانون فى التطبيق العملي لرئيس السلطة القضائية.
رئيس القضاة يراقب ممتلكات المسئولين الكبار بالدولة: وفقا للمادة 142 من الدستور فانه "يتولى رئيس السلطة القضائية التحقيق في أموال القائد، ورئيس الجمهورية، ومعاونيه، والوزراء، وزوجاتهم وأولادهم قبل تحمل المسؤولية وبعده، وذلك لئلاّ تكون قد ازدادت بطريق غير مشروع". وتمكن هذه المادة رئيس السلطة القضائية من ملاحقة المسئولين قضائيا بما في ذلك مرشد الثورة. ومنصب رئيس السلطة القضائية يتم إسناده إلى شخصية معروفة بالاجتهاد والخبرة من قبل المرشد العام للثورة، ويعين لمدة خمسة سنوات. لقد عمل الدستور والتنظيم السياسي الإيرانى على تحقيق حالة من التوازن الاجتماعى والاقتصادى والسياسي على أساس فكرة التدافع فحرص على تحقيق: 1- التوازن بين السلطة الدينية والاختيار الشعبي. 2-التوازن بين السلطات: انفصالا واتصالا. 3- التوازن في الإشراف المتبادل بين مجموع الجهاز الحاكم. 4- التوازن بين الموروث والعقيدة ومقتضيات المجتمع الحديث. 5- التوازن بين الحقوق الفردية وتأمين الحقوق الاجتماعية. 6- التوازن بين المصلحة الوطنية والمصلحة الإسلامية العليا. 7- التوازن بين السلطات الحكومية والمجتمع المدني في صياغة القرار. 8- التوازن بين الانتماء الإسلامي وحقوق المواطنة. ولابد لإكمال الصورة أن نذكر أن مؤسسة أخرى قد استحدثت لمواكبة التغييرات التى قد تطرأ على المجتمع، وهى مجلس إعادة النظر بالدستور وهى هيئة لمواجهة الحاجة إلى أية تعديلات على دستور الدولة وقد حدد قرار تشكيلها أعضاؤها بشكل يضمن مشاركة كافة قطاعات المجتمع، واختصاص هذا المجلس ينحصر في إعادة النظر في الدستور فقط حينما يتم الطلب منهم ذلك من قبل مرشد الثورة، على أن يتم طرح التعديل المقترح للإستفتاء العام ولا يقر إلا بموافقة الشعب. ويتكون تشكيل هذا المجلس من: 1- أعضاء مجلس صيانة الدستور 2- رؤساء السلطات الثلاث 3- الاعضاء الدائمون في مجمع تشخيص مصلحة النظام 4- خمسة أشخاص من أعضاء مجلس خبراء القيادة 5- عشرة أشخاص يعينهم القائد 6- ثلاثة من أعضاء مجلس الوزراء 7- ثلاثة أشخاص من السلطة القضائية 8- عشرة من نواب مجلس الشورى 9- ثلاثة أشخاص من الجامعيين.
لقد صمم النظام فى الجمهورية الإسلامية الإيرانية لبناء الإنسان قبل المنشآت والمصانع، ولتربية هذا الإنسان على العقيدة والانتماء، وكان حصاد هذا النظام حتى الآن هو القدرة على الصمود ومتابعة النمو والتطور بمعدلات مدهشة، رغم كل الظروف والحروب والحصار والمؤامرات.
ملاحظات سريعة.. الشعب الإيرانى يمارس المعارضة بشكل تلقائى وفورى فى أبسط المواقف، وقد حضرت إغلاقا لحركة الطيران فى مطار مدينة مشهد إعتراضا على محاولة إستثناء ركاب رحلة ملغاة لتعطل الطائرة.. الغريب أننى لم أشاهد شرطيا واحدا فى المشهد الذى استمر لقرابة الساعة حتى توصل مسؤلوا شركة الطيران إلى حل يرضى المسافرين الذين حاصروا سيور نقل الحقائب!!! مطعم العمال فى مصنع السيارات كان على نفس مستوى مطعم الفندق فى النظافة ونوعية الطعام وكميته وجودته.. ولم يرتجف العمال حين دخلنا بصحبة شخصيات المصنع الكبيرة، فقط ألقوا علينا تحية هادئة مهذبة!! منزل الإمام الخميني فى طهران يتكون من غرفة واحدة ودورة مياه، وباب المنزل فى زقاق لا يزيد عرضه على المترين ونصف، ويجاوره منازل لمواطنين عاديين لم تخل منازلهم لدواعى الأمن!!( أنظر الصورة المرفقة بالرسالة). أحمدى نجاد جاء إلى رئاسة الجمهورية برغبة شعبية، وبالمخالفة لترشيحات المؤسسة الدينية ورغبتها، ويتوقع المراقبون إعادة إنتخابه لفترة ثانية!! ولا تعليق...... أعتذر للإطالة وإلى اللقاء فى الرسالة القادمة.