تمر الشعوب، كما الأفراد، بأزمات وأوقات عصيبة عبر فترات متعددة من حياتها، طالت هذه الفترات أم قصرت؛ وهذا أمر نتفهمه جميعا نظرا لطبيعة الحياة البشرية. وقد يحدث أن ترتفع سخونة وتعقيد الصعوبات فتتحول إلى أزمات حادة عويصة تتأبّى على وسائل المعالجة العادية وتستلزم أفكارا جديدة؛ كما تتطلّب جهودا مضنية؛ وهذا أيضا ما يمكننا تفهمه والتعامل معه. بيد أنه من الواضح الجليّ أن أمتنا الإسلامية تعيش منذ عقود طويلة نوعا فريدا واستثنائيا من المعضلات بالغة التعقيد والصعوبة؛ ليس فقط على مستوى ما تتطلبه من أفكار وحلول مبتكرة، أو جهد خيالي لتجاوزها والتغلب عليها، بل إننا قد نواجه تحديات في معرفة كنهها، وأسبابها؛ وذلك لما تمتاز به هذه المعضلات من تعدد وغرابة مكوناتها وعدم وضوح الروابط بينها وبين أسباب نشوئها، وكذلك بينها وبين تداعياتها. وفي ظني أن من بين هذه المعضلات المهلكات ثمة معضلات ثلاث هي الأكثر أهمية وجدارة بالطرح والمعالجة ومحاولة وضع الحلول، نظرا لشدة تعقُّدها، وتداخلها أو ارتباطها العضوي بحاضر الأمة ومستقبلها؛ وهي موضوع هذا المقال.
1- عندما احتُلّت أوطاننا بواسطة أبنائها: أولى هذه المعضلات في نظري هي فتنة الحكم والحكام في بلادنا الإسلامية؛ وذلك أن الغرب الإمبريالي الدموي الذي تتدثر به الصهيونية العالمية حينما أدرك قبيل انتصاف القرن المنصرم أن تكلفة استمرار تواجده العسكري في أوطاننا جَدّ مرتفعة؛ مع إصراره على ضرورة بقائنا تحت سيطرته؛ تفتقت أذهان دهاقنته - أي الاحتلال - عن وصفة أو معادلة سحرية تُديم بقاء مجتمعاتنا الإسلامية تحت عباءته مع تجنبه لتكلفة تواجده على ترابنا. تتمثل هذه المعادلة في احتلالهم لبلادنا بالوكالة؛ ويتم هذا إما باختيار أقرب وأكثر القوى والشخصيات البارزة على ساحة المجتمع هوىً للغرب وأشدها قابليةً للخنوع والتبعية له والدوران في فلكه، أو في أسوأ الظروف انتقاء قوى وشخصيات ربما لا ترتضي لنفسها احتلال أوطانها لصالح الغير؛ إلا أنها أقل خطرا على مطامع الغرب ومخططاته ضد بلادنا من غيرها؛ بحيث أن نهجها وأفكارها تصب في نهاية المطاف في صالح القوى الإمبريالية؛ وفي جميع الأحوال فإن عشق السلطة والشهرة والمال والزهد في تعاليم السماء حاضرة في صدارة المشهد. بعد هذا تترك قوى الاحتلال مقاليد الحكم في بلادنا لتلك القوى والشخصيات المنتقاة من خلال طقوس تمثيلية تشبه الحقيقة وما هي بحقيقة؛ فيبرز هؤلاء "القادة" الأشاوس أمام شعوبهم كأبطال حرروا بلادهم وشعوبهم من نير العبودية. ومما شجع بل ودفع القوى الإمبريالية الغربية لذلك بروز قوى وشخصيات إسلامية قوية فاعلة يُنبئ توجهها الإسلامي وروابطها القوية بدينها، كما تُنبئ طموحاتها ومشروعها الوطني ونزعتها الاستقلالية بخطر عظيم على مشروعات الغرب التدميرية ونواياه الشيطانية تجاه بلادنا. ولا أريد أن أُفرط في تناول الشواهد التاريخية حتى لا يُصدم بعض القراء فيما يعدونه من الثوابت الوطنية لديهم؛ ولكنني أتساءل: ما مغزى أن تحاصر دبابات الاحتلال الإنجليزي قصر عابدين إبان الحرب العالمية الثانية لإرغام الملك فاروق على تكليف حزب الوفد بتأليف الحكومة وقيادة البلاد ؟؟؟!!! ما أغرب هذا وأعجبه ! احتلال يصر وبالدبابات على أن تتولى أكثر القوى الوطنية مناوَءةً له وعزما على بذل الغالي والرخيص لتخليص البلاد من قبضته حتى ولو بالدم، أقول يصر هذا الاحتلال على أن تتولى هذه الحركة الوطنية العنيدة قيادة البلاد حتى تتمكن من طرده ودحره !!!!!!. ثم، ألم تُنعم ملكة إنجلترا على سعد زغلول وخليفته مصطفى النحاس بلقب "سير" أثناء احتلال جيشها الملكي لأراضينا وقبلا الزعيمان هذا اللقب ؟ ألا يعني هذا أن الاحتلال قد رأى أن هذه الشخصيات وهاتيك القوى أقل خطرا على تواجده على أرضنا وأطماعه ومخططاته ضد بلادنا من غيرها؟؟؟ وأضيف فأقول أن السير سعد زغلول قد قبل على نفسه مصاهرة رئيس النظار مصطفى فهمي رجل الإنجليز الأول في مصر؛ بل إن سعد زغلول كان في مقدمة مودِّعي اللورد كرومر (وما أدراكم من هو اللورد كرومر) حينما حانت ساعة انزياحه عن أرض الكنانة !!!!. مثال آخر، جمال عبد الناصر؛ الذي لا ندعي قيامه باحتلال وطنه وجعله من نفسه مخلبا لقوى الإمبريالية؛ وإنما هو من النوع الثاني الذي أشرنا إليه آنفا. كان عبد الناصر من عشاق السلطة والزعامة إلى حد الهوس حتى ولو على حساب وطنه ؛ كما انه لم يكن يأبه بانتماء مصر إلى عالمها الإسلامي فقد كان عبد الناصر صديقا للزعيم الهندي نهرو وسانده سياسيا ومعنويا في حروبه المتكررة ضد باكستان المسلمة، كما تحالف مع طاغوت يوجوسلافيا (السابقة) تيتو الذي كان يذيق المسلمين في بلاده شتى صنوف العذاب والمذلة والعنصرية على مرأى ومسمع من العالم أجمع بما فيه عبد الناصر بالطبع؛ ولم يفكر الزعيم المصري العربي المسلم يوما حتى في استغلال صداقته بهذا الطاغية لمحاولة إقناعه بتعديل نهجه مع المسلمين المضطهدين المحروبين هناك وهو من كان يُلقب بالزعيم الثوري التحرري !! مع تقديرنا بالطبع لكميات الهواء الضخمة التي كان يستهلكها "خالد الذكر" في صياحه الدائم مرددا مقولاته الثورية الشهيرة وعلى رأسها مقولته "سنلقي بإسرائيل ومن وراء إسرائيل في البحر"؛ وإذ بنا نفيق ذات صباح لنجد أن إسرائيل قد ألقت بأكثر من مائة ألف جندي من أبنائنا في بحور الرمال على أرض سيناء الحبيبة؛ وألقت معهم بحاضر أمة العرب ومستقبلها في بحر المجهول وفي ست ساعات فقط. وبطبيعة الحال فلا بد لقوى الإمبريالية المتوحشة من تدارك بروز أي زعيم يسير على عكس ما تشتهي؛ فتعمل على إزاحته من المشهد فورا؛ وإعادة البلاد إلى حظيرة الشعوب الداجنة التي يديرها الغرب؛ وهو ما يجري تحقيقه باستماتة على أرض الكنانة حاليا. إن صفحات تاريخ أمتنا الإسلامية الحديث لتعدم حاكما واحدا تسلم مقاليد السلطة في أحد أوطاننا عقب الخروج المسرحي لقوى الاحتلال منه ثم صار بوطنه في طريق التقدم والرفعة والكفاية والاستقلال؛ إن بلادنا الإسلامية قد شهدت معظمها انقلابات واحتاجت - ولا يزال معظمها بحاجة - إلى ثورات حقيقية على هذه الأنظمة العفنة التي أتت إلى السلطة عبر "ثورات" مسرحية !!! أعقبت التواجد العسكري للغرب وخلفته في احتلاله لبلادنا وتقاسمت معه خيراتنا وتولت تدميرنا لصالحه. بيد أن النقطة الحرجة أو المعضلة الكبرى هنا تكمن في الإشكالية الغريبة التي تتمثل في وجود حكام من بني جلدتنا يحتلون بلادنا؛ كنا نقاوم الاحتلال الأجنبي صفا واحدا دونما تردد، ودونما تشرذم، أو هكذا فعل آباؤنا؛ أما هذه الأنظمة المحلية المغتصِبة فهي قصة أخرى فليس بمقدور المجتمع مثلا أن يُجمع على إعلان الجهاد عليها؛ كيف ورموزها "محمد وأحمد ..." ؟ بل لم يعدم المجتمع من "علمائه" من يحرّم الثورة عليهم ولم يعدم المجتمع أيضا وجود قطاع ليس باليسير من أبنائه يصدق هؤلاء "العلماء"؛ إذا فهي الفتنة ولا تزال غالبية مجتمعاتنا الإسلامية تعيش حرائقها حتى الساعة؛ وأضحى حاضرها ومستقبلها على المحك؛ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 2- الدين بين العلماء الربانيين وعلماء السلطان: ثاني أكبر معضلة تجابهها مجتمعاتنا الإسلامية في هذه المرحلة هي تلك البلبلة الشديدة التي تشوب فهم المسلمين لإسلامهم؛ وذلك نتيجةً لتضارب الفتاوى بشكل حاد؛ وأنا لا أتحدث هنا عن اختلاف العلماء في آرائهم وفتاواهم وتعدد المدارس الفقهية فهذا الأمر من سمات ديننا الحنيف لأنه صالح لكل زمان ومكان؛ وقد توارثته أمتنا وألِفته جيدا عبر تاريخها؛ وإنما أتحدث عن فريقين ممن يتصدرون للإفتاء يلتزم احدهم نهجا واحدا واضحا في جميع فتاواه يقوم على موافقة هوى الحاكم وتوجهه بحيث لا تصدر من أعضاء هذا الفريق فتوى واحدة تخالف ما يريده ويروج له الحاكم مع ملاحظة نوعية الحكام الذين نتحدث عنهم؛ ولإكمال الصورة أقول أن أعضاء هذا الفريق هم من يشغلون المناصب العليا في الدولة فيما يتعلق بالشئون الدينية وتعج بهم وسائل الإعلام الرسمية صباح مساء!!!. وفي اعتقادي أن أسباب هذه الضبابية والتضارب تتعلق بما ذكرته آنفا عن طبيعة حكامنا ودورهم المدمر في حياة مجتمعاتهم بشكل عام. حيث أنه لا بد للطاغية الذي يحتل وطنه بالوكالة عن أعداء هذا الوطن من ترسيخ دعائم دكتاتوريته؛ وأولى الخطوات في هذا الطريق ومع شعوب تعشق دينها وتقدسه هي خلق طُغمة من المتخصصين في الشأن الديني وتصديرهم إلى المجتمع ك "علماء ثقات" عبر إفساح المجال أمامهم للظهور المُلحّ في وسائل الإعلام الرسمية والاحتفاء بهم وتكريمهم ظاهريا لخلق هالة حولهم تساعد في تقبل الجماهير لما يقدمونه إليهم من رؤى وفتاوى؛ وبطبيعة الحال فقد روعي في اختيار هؤلاء "العلماء" أن يكون هواهم موافقا لهوى الحاكم من حيث عشق السلطة والنفوذ والمال وذيوع الصيت، وألا يخشون في الحاكم لومة لائم، وأخيرا أن تنعكس جميع هذه المقاييس فيما يصدرونه للناس من فتاوى. من هنا بدأت الكارثة فلدينا قائمتان مطوّلتان من الفتاوى المتضاربة تماما في أمور غاية في الأهمية كالربا، وجواز الخروج على الحاكم في حالات بعينها، وبعض إبداعات الفنون ...الخ؛ مع الأخذ في الاعتبار أننا نتحدث عن مجتمعات بها نسبة كبيرة من الأمية على اختلاف أنواعها ودرجاتها فكانت الكارثة. 3- الانقسام المجتمعي الحاد: تعاني مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة من انقسام حاد داخل كل واحد منها؛ وليسمح لي القارئ الكريم أن أعيد عليه مقتطفات من مقال سابق لي تناولت من خلاله هذه المشكلة تحديدا في سياق مختلف، وأراها ضرورية في هذا السياق أيضا؛ إذ ينصبّ هذا الانقسام أساسا على جوهر الدين وطبيعة أحكامه وتأويلات نصوصه، ثم، وهذا هو الأهم، وضع الدين أو دوره في تركيبة الدولة والمجتمع بشكل عام. أما عن طرفي هذا الانقسام الذي تحول إلى صراع رهيب فيتمثلان فيما يعرف لدينا حاليا بالتيار العلماني أو الليبرالي الذي ينظر أصحابه إلى الدين على أنه مجموعة من القيم الروحانية والإنسانية السامية مثل الصدق، والأمانة، وطهارة اليد ... الخ، ولا يرون في الدين أبدا - بحكم طبيعته التي أًنزل بها وليس خصما منه في رأيهم- أية نظرية أو منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية يمكنها قيادة العمل الوطني على مستوى مفهوم "الدولة". وينسحب هذا الفهم في أدناه على تفاصيل الحياة اليومية؛ فأصحاب هذا الفهم يرون أن الحرية المطلقة في الملبس والمأكل ومخالطة الرجال للنساء في العمل والعلاقات الإنسانية العادية هي الجوهر الحقيقي لهذا الدين؛ باعتباره يركز أساسا على سريرة الإنسان، وينتمي إلى هذه الاتجاه بالأساس الفنانون على اختلاف مجالاتهم الفنية، والإعلاميون، ورجال الأعمال، مع استثناءات محدودة فيمن ينتمون إلى كل واحد من هذه المجالات، ومن الملاحظ أنها ذات المجالات التي نبتت أساسا في الغرب ثم نُقلت إلى مجتمعاتنا شكلا ومضمونا إلى حد بعيد؛ ولا تزال هذه الحقول في بلادنا على صلة وطيدة بمصدرها الأصلي تستمد منه إلهامها، وتنقل عنه كل جديد، وتقتفي أثره في كل شاردة أو واردة. أما الاتجاه الثاني فينظر أبناؤه إلى الدين على أنه الحاكم والمنظم الوحيد لجميع شئون الحياة - أو هكذا يجب أن يكون- من سياسة واقتصاد وثقافة وأعمال وعلاقات إنسانية، وصولا إلى مظهر الإنسان ومأكله ومشربه إلى غير ذلك مما لا يخفى على أحد. ويتكون هذا الفريق من أبناء التيارات الإسلامية - مع خلافات بينهم على قضايا رئيسة - ومناصريهم ومن يُطلق عليهم "المتدينون" في معظمهم حتى وإن لم ينتموا تنظيميا إلى أيِّ من هذه التيارات المشار إليها. ثم مع تشدد بعضا من أبناء ورموز كلا الاتجاهين وتطرفهم في منحاهم وفيما يذهبون إليه اتسع الفتق وزادت الهوة بينهما وتحول الأمر إلى صراع رهيب موضوعه المجتمع بكل أركانه، ومحوره الدولة وسلطة الحكم مدفوعا بخوف كل طرف من الآخر. وتشير جميع الشواهد إلى أن الغرب الذي تحركه الصهيونية الحاقدة هو الذي غرس هذه البذرة الشيطانية في بلادنا وتعهدها حتى شقت كل واحد من مجتمعاتنا الإسلامية شقين؛ وقد نجح الغرب في هذا عبر أذرعه ومخالبه داخل بلادنا وعلى رأسها، وبكل أسى، حكامنا بنو جلدتنا الذين يتسمون في معظمهم إما بالعِمالة أو الغباء الفولاذي أو كليهما؛ مع تجاهلهم التام لدينهم في جميع الأحوال؛ إضافةً إلى الأذرع التنفيذية في مجالات بعينها أهمها ما يسمى لدينا بالفن، والإعلام بشتى ألوانهما، لا سيما السينما، والصحافة، بالإضافة إلى الأدب. لم يهدف الغرب من وراء ذلك إلى غرس بذرة الشقاق بين أبناء مجتمعاتنا فقط؛ بل خطّط الغرب الماكر أساسا إلى تكوين ما يمكن تسميته خطاً أو "جبهة" جديدة موازية للاتجاه الديني الجارف في بلادنا تمهيدا للإجهاز عليه؛ وذلك عبر التقاط الشخصيات المؤثرة ذات الانتشار الواسع في المجتمع كالأدباء والكتّاب والفنانين ممن يرون لديهم ميلا أو قابلية لاعتناق ما يروجون له من أفكار هدامة؛ ثم يصدرون توجيهاتهم إلى أذرعهم الداخلية لدينا - تلك الأذرع القوية المتشعبة المشار إليها أعلاه - بإتاحة جميع المنابر والنوافذ دون حدود لهذه المواهب وتقديم أعمالهم للمجتمع وسط هالة من التكريم والحفاوة؛ علما بأننا لا نضع جميع أبناء التيار العلماني في سلة الغرب وعملائه بيد أن هذا هو حال غالبيتهم. وفي هذا الإطار احتُفي ب "محمد حسين هيكل" صاحب رواية "زينب" أول رواية عربية حديثة؛ بينما سُجن، وعُذّب، وأهين "سيد قطب" صاحب "الظلال" قبل أن يُشنق؛ كما ذاع صيت "طه حسين" صاحب كتاب "في الشعر الجاهليّ" ونالت "أولاد حارتنا" ل "نجيب محفوظ" تكريما عالميا رفيعا، في حين أُهمل "مصطفى صادق الرافعي" وأهيل التراب على أدبه البياني الإسلامي الرفيع؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا زالت ذاكرتنا تحتفظ بمشاهد احتفاء الغرب بأكمله بكل من "نسرين تسليمة"، و"سلمان رشدي" وغيرهما ممن أهانوا إسلامنا وقدحوا في حقه بما ليس فيه؛ حيث كان تكريم الغرب لهما مكافئ تماما لما يكنه لنا من كراهية وعداء ومخططات شيطانية. وبطبيعة الحال فلا خلاص لبلادنا من هذه الأوضاع إلا بالتخلص من هؤلاء اللصوص المجرمين المعروفين زورا بالحكام، والذين يحتلون أوطاننا بالوكالة؛ وذلك من خلال ثورات شعبية عارمة تتحد فيها جميع اتجاهات المجتمع وتنحي خلافاتها واختلافاتها جانبا. وهو ما حدث بالفعل في مصر وتونس وليبيا والبقية قادمة بأمر الله. بيد أنه مراعاةً للانقسام الذي تشهده مجتمعاتنا، كما أشرت في السطور السابقة، فإنني أتصور أن أية ثورة تُكتب لها النجاح في أحد هذه المجتمعات لا بد أن توكَل إدارة الأمور فيها أثناء المرحلة الانتقالية إلى مجلس رئاسي مكوَّن من أعضاء لا ينتمون إلى أيٍّ من طرفي الصراع الدائر في المجتمع؛ شخصيات محايدة لا انتماء لها سوى للوطنية والنزاهة والكفاءة. ثم يتوافق الجميع على ترشيح وانتخاب شخصية بذات المواصفات لتولي رئاسة البلاد. وحتى تستطيع البلاد أن تشق طريقها نحو المستقبل فلا بد من عقد محاكمات ثورية لتطهير أجهزة الدولة الرئيسة وفي مقدمتها الجيش، والشرطة، والقضاء، والإعلام، وعصابات الفساد المالي المتغلغلة في مفاصل الدولة. يأتي بعد هذا وضع دستور مؤقت يتم الاتفاق على مواده؛ على أن يُشرع فور ذلك في حوار مجتمعي شامل يهدف إلى بناء الثقة وتغيير النظرة المتبادلة بين أصحاب الاتجاهين - بعد استبعاد المتطرفين من كلا الجانبين ومن يُشك في وطنيتهم؛ فلا بد أن ينظر كل منهما للآخر على أنه صاحب رأي أوصله إليه اجتهاده؛ وأنه إن كان يراه على خطأ فيما ذهب إليه فهو خطأ في التقدير والاجتهاد وليس عن سوء قصد؛ وأن يكفّ بعض المتدينين إذا عن رَمي العلمانيين ومن حذا حذوهم بالزيغ والضلال ومعاداة دين الله في الأرض؛ كما يجب على بعض العلمانيين الكف عن اتهام أبناء التيارات الدينية بالجمود والتخلف وعدم القدرة على مجاراة الواقع والتكيف مع متغيرات الحياة الدائمة. وبالنظر إلى خصوصية الأوضاع الحالية في وطننا الغالي مصر؛ فإنني أرى أن هذا التصور هو ما يجب تطبيقه أيضا على أرضها؛ ولكن بعد زوال الانقلاب العسكري الغاشم ومحو جميع آثاره؛ ثم عودة الدكتور محمد مرسي الرئيس الشرعي للبلاد ليفوض صلاحياته كاملة إلى حكومة توافقية مؤقتة تتوافر في أعضائها ذات المعايير التي أشرنا إليها لتشرع فورا في القيام باستفتاء حول إجراء انتخابات رئاسية مبكرة من عدمه بالتزامن مع إجراء انتخابا برلمانية؛ حتى تتمكن البلاد من السير قدما نحو مستقبل أفضل. أما ما هو حادث اليوم من بلبلة وتخبط شديدين في مجال الإفتاء والجانب الديني عموما مما ذكرناه آنفا؛ فسوف تزول جميع هذه الشوائب تلقائيا إذا ما سارت الأمور في داخل المجتمع على النحو الذي تضمنته السطور السابقة، أو وِفق أي تصور آخر يقود إلى ذات النتائج المأمولة؛ والله الموفق.
٭كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر [email protected]