لسنا في حاجة لإثبات أن مصر - كدولة ومجتمع - تعاني من أزمة مفصلية عاصفة، وأن وطننا الآن في مفترق طرق. وسوف أتناول الأمر هنا من زاوية المجتمع وليس الدولة، لأنني أرى أن الأخيرة ليست إلا صدى أو انعكاسًا للأولى. وفي رأيي أنه على الرغم من طول أمد الأزمة واستعارها، وكثرة الأحبار التي أريقت والأصوات التي علت وتراطمت محاولةً تحليلها واستكناه أسبابها، وسبر أغوارها، أقول إنه على الرغم من ذلك فلم نضع أيدينا بعد على سر الأزمة وسببها الحقيقي؛ أو في أحسن الأحوال يُشار إليه عرضًا ولا نقف أمامه طويلاً، ولم نسلط عليه الضوء بما يتفق مع خطره وعِظم شأنه. إذ تشير معظم التحليلات إلى أن الأزمة سياسية وقانونية محضة مذ بدأت وحتى الآن، تتمثل أساسًا في الخلاف حول بعض مواد الدستور، وتعيين النائب العام، المستشار طلعت عبد الله... إلخ؛ إلا أنني أنظر إلى هذه الأمور جميعًا على أنها أعراض للمرض العضال الذي تئن مصر تحت وطأته الشديدة؛ ألا وهو الانقسام المجتمعي الحاد الذي ينصبّ أساسًا على جوهر الدين وطبيعة أحكامه وتأويلات نصوصه، ثم - وهذا هو الأهم - وضعه أو دوره في تركيبة الدولة والمجتمع بشكل عام. تدور رحى الأزمة بين طرفين أو اتجاهين رئيسين؛ يتجاذبان الوطن برمته بينهما؛ بالإضافة إلى كتلة ليست باليسيرة من أبناء هذا الشعب يشاهدون الأحداث بقلق وخوف على مصير وطنهم؛ إلا أنهم لا يعترضون الأحداث ولا يحاولون التأثير على مجرياتها؛ بل يقنعون بالمشاهدة وانتظار النتيجة النهائية لهذا الصراع مع مواصلة الدعاء وهو أقصى ما يمتلكون. أما عن طرفي الأزمة فيتمثلان فيما يعرف لدينا حاليًا بالتيار العلماني أو الليبرالي، بشكله الموسع الذي لا يقتصر على عدد من المثقفين، أو بعض أحزاب المعارضة السياسية، وإنما يشمل كذلك شريحة ليست بالقليلة من أبناء مجتمعنا تعتنق نفس الأفكار وتدافع عن ذات المبادئ. ولوضع كل شيء في موضعه، فإنني أعني بالعلمانية في هذا السياق "فصل الدين عن الدولة"، فلا خلط للدين بمجالات الحياة الأخرى من سياسة واقتصاد... الخ، أستخدم المصطلح هنا بهذا المعنى فقط مجردًا من الظلال الدلالية الأخرى التى ترمي أحيانًا إلى معاداة الدين والعمل على تدميره ومحوه من الوجود. وتتمحور مبادئ هذا التيار حول رؤية خاصة للدين - بوجه عام - ودوره في المجتمع، فأصحاب هذا الاتجاه ينظرون إلى الدين على أنه مجموعة من القيم الروحانية والإنسانية السامية مثل الصدق، والأمانة، وطهارة اليد... إلخ، ولا يرون في الدين أبدًا - بحكم طبيعته التي أنزل بها وليس خصمًا منه في رأيهم - أية نظرية أو منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية يمكنها قيادة العمل الوطني على مستوى مفهوم "الدولة". وينسحب هذا الفهم في أدناه على تفاصيل الحياة اليومية؛ فأصحاب هذا الفهم يرون أن الحرية المطلقة في الملبس والمأكل ومخالطة الرجال للنساء في العمل والعلاقات الإنسانية العادية هي الجوهر الحقيقي لهذا الدين؛ باعتباره يركز أساسًا على سريرة الإنسان، فمعظمهم لا يرى في الخمر - على سبيل المثال - ذلك الإثم الكبير، وإن كانوا يرون أفضلية تجنبها؛ ولا يرى معظمهم في مظهر المرأة الغربية ما يتعارض مع حقيقة الإسلام. وينتمي إلى هذه الاتجاه بالأساس الفنانون على اختلاف مجالاتهم الفنية، والإعلاميون، ورجال الأعمال، مع استثناءات محدودة فيمن ينتمون إلى كل واحد من هذه المجالات، ومن الملاحظ أنها ذات المجالات التي نبتت أساسًا في الغرب ثم نُقلت إلى مجتمعاتنا شكلاً ومضمونًا إلى حد بعيد؛ ولا تزال هذه الحقول في بلادنا على صلة وطيدة بمصدرها الأصلي تستمد منه إلهامها، وتنقل عنه كل جديد، وتقتفي أثره في كل شاردة أو واردة. أما الاتجاه الثاني فينظر إلى الدين على أنه الحاكم والمنظم الوحيد لجميع شئون الحياة - أو هكذا يجب أن يكون - من سياسة واقتصاد وثقافة وأعمال وعلاقات إنسانية، وصولاً إلى مظهر الإنسان ومأكله ومشربه إلى غير ذلك مما لا يخفى على أحد. ويتكون هذا الفريق من أبناء التيارات الإسلامية - مع خلافات بينهم على قضايا رئيسة - ومناصريهم ومن يُطلق عليهم "المتدينون" في معظمهم، حتى وإن لم ينتموا تنظيميًا إلى أيِّ من هذه التيارات المشار إليها. ولن أسترسل هنا في الحديث عن رؤى كل فريق منها وفهمه الخاص لجوهر الدين الإسلامي وتعاليمه، وانعكاسات ذلك على سلوكياتهم وتفاصيل حياتهم، فهذا أوضح من أن يوضح. كما أنني لست هنا بصدد الحكم على كلا الاتجاهين، أو المفاضلة بينهما، أو تناولهما بالنقد؛ وإنما أردت فقط وصف الواقع كما أراه، حتى نصل إلى لب الأزمة التي يعيشها ويعاني منها وطننا. هذه الأزمة تتلخص في الصراع الدائر بين كلا الفريقين؛ مدفوعًا بخوف كل فريق من الآخر إذا ساد ومُكّن له أن يفرض نمط الحياة الذي يتسق ونظرته أو فهمه للدين ودوره في المجتمع على جميع أطياف المجتمع ومكوناته. ومن هنا نشب الصراع الذي دار حول الدستور ومواده؛ وإن أُلبس هذا الصراع ثوبًا سياسيًا نسيجه عدم التوافق على مواد الدستور وغياب التكافؤ في تشكيل الجمعية التأسيسية التي أُنشئت لإعداده، وينسحب الأمر ذاته على أزمة النائب العام. هذا الخوف المتبادل وحرص كل من الفريقين على صبغ المجتمع والدولة بلونه الخاص هو المرض الحقيقي الذي يعاني منه مجتمعنا. وما المحاور المعلنة للخلاف، أو بالأحرى الصراع، بين هذين الفريقين سوى أعراض لهذا المرض اللعين إنه "الانقسام المجتمعي الحاد" الذي تمخض عنه صراع سياسي، وقانوني أكثر حدة. بين هذين الاتجاهين تتمزق مصر رويدًا رويدًا، ومن الملاحظ، بل من العجيب أن هذا الصراع موجود بشكل يكاد يكون متطابقًا في معظم المجتمعات الإسلامية، من باكستان، وبنجلاديش -التي يشتعل فيها الصراع بين الاتجاهين على أشده اليوم - وإندونيسيا شرقًا، إلى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب غربًا، ومن السودان جنوبا إلى تركيا شمالاً، والتي تمثل النموذج الأشد وضوحًا وحدة لهذا الصراع لأسباب تاريخية لا تخفى على أي متابع. فلماذا تعاني مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة دون غيرها من مثل هذه الصراعات؟ وما السبيل إلى الخروج من أتون هذا الوضع الكارثي الذي يهدد لا أقول أمن وسلامة مجتمعاتنا الإسلامية، وإنما يهدد وجودها من حيث الأساس؟ هذا ما سوف أحاول الإجابة عليه في المقال القادم بإذن الله.