في خطابه الأخير بمناسبة الاحتفال بعيد الشرطة وضع الرئيس مبارك يديه علي أصل الداء.. داء التمييز والفتنة.. داء انقسام الوطن.. طلب الرئيس من الأزهر والكنيسة أن يقوما بدورهما في محاربة الفتنة الطائفية.. وكأنه يقول لهما إن العيب والتقصير كان من أسبابه الرئيسية بعض سلوك وتفسيرات وخطابات رجال الدين من المؤسستين العريقتين.. ولعل هذا يعد مدخلاً جيداً لكل من يريد أن يضع حلولاً لما تعانيه الأمة من انقسام وانشطار بين عنصر الأمة الواحد... نسيج الوطن المشترك.. مصر بمسلميها وأقباطها.. فهناك حكمة تقول "العنف هو اختناق العقل في الحنجرة.. ومن يخطو خطوة البداية يقطع نصف الطريق إلي النهاية.. ويجب أن ندعو الله أن يقوي ظهورنا.. لا أن يخفف أحمالنا".. ولكن يبدو أننا أمة كتب عليها إضعاف ظهورها وزيادة أحمالها، فرغم الخطوات الوئيدة للوصول إلي دولة المدنية ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح والولوج لعصر المدنية والحداثة والتواصل مع منجزات الحضارات الراقية التي أرست معايير العقل والتسامح، وفعَّلت من روح الابتكار والمبادرة واحترام حقوق الإنسان علي كافة الأصعدة، نجد ما زال في جوف أرضنا حجافل من الماضوية وأقدام تخرج متكدسة تدوس علي المدنية بعنف وبلا رحمة وترسي ثقافات حلقات الذكر الفاشية وتضرب إسفين الفرقة والخصام في نسيج الوطن الواحد.. وطن كل المصريين.. لا علاقة للدين أياً كان ولا للعقائد أياً كانت بهذا النسيج الذي يقوم أساساً علي حق كل مواطن في التعبير والحرية والحياة وممارسة شعائره الدينية والتعبير عن عقائده السياسية بلا خوف أو قهر.. ومن يعتقد أن من أسباب الفتنة المثارة حالياً بين مواطنين عنصر الأمة سببه استغلال بعض الجماعات المادة الثانية من الدستور والتي تتحدث عن "أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" وأن دين الدولة هو الدين الإسلامي.. هو اعتقاد خاطئ دستورياً وقانونياً.. فعبقرية العديد من مواد الدستور المصري تمنح معالم الدولة المدنية، ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح، وتمانع التمييز بكافة أنواعه، فكافة بنوده في كافة أبوابه، عندما يتحدث عن الأفراد يقول المواطن أو المواطنين بلا تمييز أو تصنيف، ولنقرأ: "تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين... الخ" (مادة 8)، "الوظائف العامة حق للمواطنين.. الخ" (مادة 14)، "لكل مواطن نصيب من الناتج القومي... الخ" (مادة 25)، "المواطنون لدي القانون سواء.. الخ" (مادة 40)، "كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته يجب معاملته بما يحفظ كرامة الإنسان.. الخ" (مادة 42)، "لحياة المواطنين الخاصة حرمة يحميها القانون.. الخ" (مادة 45)، "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية.. الخ" (مادة 46)، "تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي.. الخ" (مادة 49)، "لا يجوز إبعاد أي مواطن.. الخ" (مادة 51)، "للمواطنين حق الاجتماع الخاص في هدوء.. الخ" (مادة 54)، "للمواطن حق الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي.. الخ" (مادة 62 لكل مواطن حق الالتجاء إلي قاضيه الطبيعي... الخ" (مادة 68)... ومن هنا تكمن أهمية الحفاظ علي هذه الشرعية والتي تؤكدها المادة الأولي "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة".. وبالتالي تتلاقي المواطنة مع المدنية، وتنتفي كافة أشكال التمييز وذلك بحماية دستورية وبقوة سيادة القانون، إلا أن هناك اختراقا لهذه الشرعية علي يد جماعات وأفراد ألفت البغضاء والانقسامية وأدمنت التعصب والطائفية.. فالطائفية هي إفراز للتعصب، وهو الاعتقاد الباطل بأن الإنسان يحتكر لنفسه الحقيقة وغيره يفتقر إليها وله عدة أوجه فهناك التعصب العنصري والتعصب القومي والتعصب الديني وكل هؤلاء يشتركون في سمة واحدة " وهي الانحياز إلي موقف جماعتهم التي ينتمون إليها دون تفكير وإغلاق أبواب العقل ونوافذه إغلاقاً محكماً حتي لا تقفز إليه نسمة من الحرية.. إن كافة المواد الدستورية التي أشرنا إليها توفر ضمانات معينة لجماعات الأقليات دينية كانت أو ثقافية أو قومية أو عرقية أو لغوية، فلهذه الأقليات كل الحق ليس فقط في أن تعترف الدولة بوجودها، بل وأيضاً أن تحمي هويتها الخاصة وأن تهيئ الظروف المناسبة لتعزيز تلك الهوية، وللأشخاص المنتمين إلي أقليات كامل الحقوق الديمقراطية بما في ذلك حق المشاركة في القرارات التي تمس جماعاتهم الخاصة أو المناطق التي يعيشون فيها، وبالتالي تنتفي هنا فكرة طائفية أي جماعة أقلية في ظل مجتمع ديمقراطي، أو مجتمع يسعي للولوج للديمقراطية، فمن حق _ ودستوريا _ أي مواطن أو جماعة أن تعبر عما تعانيه أو تناله من أذي أو تحقير أو أن يحطَ من قدر عقائدهم وديانتهم.. ويجب أن نعترف أن الديمقراطية ليست فقط إتاحة أوسع الفرص للمشاركة في صناعة القرارات الوطنية وفسح المجال لتداول السلطة من خلال صناديق الانتخاب، وإنما هي أيضاً أنجح السبل لتحقيق أكبر قدر من التجانس والاندماج في المجتمع الوطني من خلال كافة أفراده وجماعاته وطوائفه ودياناته وعقائده.. وبذلك تكون العلاقة بين الدين والدولة أوثق وأكثر رحابة وبلا عداء.. ولذلك لابد من كافة قوي المجتمع الرشيدة والنشطاء الحقوقيين والسياسيين والحزبيين وعامة المثقفين أن يناضلوا من أجل ترسيخ وإعلاء هذه القيم المدنية التي تمانع التمييز والطائفية وأن الدستور المصري به ما يمنحنا القوة والشرعية للنضال من أجل المدنية وسحق كل من ينتمون إلي فضائح التمييز والطائفية.. وانطلاقاً من الحكمة التي قالها الرئيس بأن علي الأزهر والكنيسة محاربة الفتنة، كان يعني أن تلتزم كل مؤسسة ببث قيم التسامح وإعلاء شأن المواطن وعدم التعرض للديانات والعقائد الأخري.. فهل فهم الطائفيون والمتآمرون علي وحدة الوطن؟!