بكثير من الاهتمام تناول المحللون العسكريون والاستراتيجيون الصهاينة، العملية البطولية التي نفذتها كتائب القسام (حقل الموت) يوم الأربعاء (16/4)، والتي أدّت إلى مصرع ثلاثة جنود صهاينة من قوات النخبة. مكمن الاهتمام بالعملية هو أنها حملت عدة مؤشرات على التطوّر الملحوظ في الأداء النوعي للذراع العسكري ل"حماس" وأذرع المقاومة، مقابل الإخفاق المتزايد لأداء جيش الاحتلال وقدرته على الردع التقليدي، خصوصاً وأنّ هذه العملية جاءت بعد أسبوع من نجاح المقاومة في التسلل إلى موقع "ناحل عوز" الحصين. في الجانب الكمِّي للخسائر؛ رأت صحيفة "معاريف" العبرية أنّ العملية رفعت عدد صرعى قوات الاحتلال في القتال بقطاع غزة، إلى ثمانية في غضون ثلاثة أشهر ونصف الشهر منذ بداية سنة 2008، واعتبرت أنّ هذه وتيرة إصابات عالية بشكل كبير. ارتفاع عدد صرعى قوات الاحتلال ولقراءة هذه الأرقام؛ عقد المحلل العسكري في "معاريف"، عمير ربابورت، مقارنة إحصائية بين قتلى العامين الماضي والحالي، مشيراً في هذا الصدد إلى أنّ صرعى جيش الاحتلال وفقاً لهذه النسبة قد يصلون إلى 25 جندياً حتى نهاية عام 2008 ، مقارنة ب 3 جنود فقط خلال العام الماضي. ويطرح ذلك برأي ربابورت أسئلة صعبة أمام الجيش الصهيوني، مرجعاً ارتفاع الخسائر إلى تحسّن ملحوظ وكبير في قدرات المقاتلين الفلسطينيين، سواء من ناحية عتاد الأسلحة، أو من ناحية التكتيك العسكري في القتال. وعقد محلل آخر في الصحيفة نفسها، هو عنيت كوهين، مقارنة من نوع مغاير، بين العمليات التي استهدفت قوات الاحتلال عند الشريط الحدودي لفلسطينالمحتلة مع لبنان، والعمليات عند الشريط المحاذي لقطاع غزة، ليصل إلى أنّ "التطوّر العسكري لدى المقاومة بغزة, مقارنةً بحزب الله اللبناني، يسير بوتيرة متسارعة، فحجم العمليات المكثفة في قطاع غزة (من الجانبين) من الصعب استيعابه وحصره، فهو أكثر بكثير من حجم العمليات التي كانت تجري في منطقة الحزام الأمني في جنوب لبنان (المحتل في حينه)". ويستنتج كوهين من ذلك؛ أنّ لدى المقاومة بغزة القدرة على تعلّم أساليب عمل جيش الاحتلال، واستخلاص النتائج والعبر، والاستعداد لتحسين سبل المواجهة. تكتيكات المقاومة المتشعبة وبموازاة ذلك؛ لاحظ محللون في الصحافة العبرية أنّ الشهور الثلاثة الماضية تميّزت بقتال متشعب للمقاومة أكثر من ذي قبل، على طول الجدار الفاصل المحصّن مع قطاع غزة، من إطلاق للنار بواسطة القنّاصة، إلى تنفيذ عمليات فدائية أو مواجهة الجنود الصهاينة وجهاً لوجه، أو وضع عبوات وألغام، أو نصب للكمائن. وحسب المصادر العبرية؛ فإنّ المعركة التي دارت بين الطرفين شرق البريج (حقل الموت) كانت صعبة للغاية، وأنّ جنود الاحتلال اعترفوا بأنّ مقاتلي "حماس"، هم "مقاتلون أشداء جداً". وقد أثار الكمين الذي نصبته "كتائب القسام"، ومقتل الجنود على هذا النحو الباعث على الذهول؛ صدمة في صفوف الجيش الصهيوني، الذي شنّ ردات فعل هجومية (انتقامية) ضد المدنيين، أدت لاستشهاد 18 فلسطينياً علي الأقل في سويعات قليلة، بينهم مصور صحافي يعمل في وكالة "رويترز" وعديد الأطفال. من الدفاع إلى الهجوم على المستوى التكتيكي؛ يرى مراقبون أنّ التطوّر الأخير في أداء المقاومة يندرج في إطار "التحرش" بقوات الاحتلال ومهاجمتها، بدلاً من الانتظار للردّ على توغلاتها. أي أنّ ما حدث هو انتقال المقاومة من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، وهو ما يمنحها مزايا متعددة، فهي التي تقرِّر توقيت المواجهة ومكانها المناسبين، الأمر الذي يفقد الخصم بالمقابل عنصر المباغتة، ويزيد من تأثير صدمته، لأنّ مهاجمته تتم في عقر معسكراته أو قريباً منها. ومعروف أنّ عقيدة الجيش الصهيوني العسكرية في أغلب الحروب التي دخلها كانت ترتكز على عنصريْ المباغتة من طرفه؛ ومهاجمة خصومه في أراضيهم. لذا كانت صدمة ذلك الجيش كبيرة في حربه العدوانية ضد لبنان عام 2006، حينما انتقلت المعركة إلى عمق فلسطينالمحتلة، أي ما يسميه جيش الاحتلال "الجبهة الداخلية" التي اهتزت على وقع صواريخ المقاومة التي انهمرت عليها. والحالة تبدو شبيهة في الصدمة القائمة اليوم من العمليات النوعية التي تتم بها مهاجمة مراكزه، واستهداف مسؤولين أو جنود صهاينة في مراكز المدن والمغتصبات وقلب الثكنات المحصنة، ومن هذه الاستهدافات ثلاث محاولات كادت أن تودي بوزير ما يسمى "الأمن الداخلي"، آفي ديختر. تأثيرات استراتيجية وفي محاولة منه لرصد تأثيرات المنحى التصاعدي للعمليات النوعية التي ينفذها الذراع العسكري لحركة "حماس" وفصائل المقاومة الأخرى ضد الاحتلال على خط الحدودي مع قطاع غزة، وهي ذات أبعاد سياسية واستراتيجية؛ أوضح المحلل العسكري في موقع صحيفة "يديعوت احرونوت" العبرية رون بن يشاي؛ أنها: أولاً: قد تدفع صناع القرار داخل حكومة الاحتلال إلى القبول بالتهدئة التي تحاول حركة "حماس" وبشروطها فرضها علي الاحتلال، حسب تعبير بن يشاي، لأنّ قتل الجنود الصهاينة يثير الرأي العام في الكيان الصهيوني. ثانياً: تعتقد قيادة "حماس" أنّ حربها التي تشنها على "الشريط الحدودي"، لن تدفع صناع القرار في الكيان الصهيوني إلى اتخاذ قرار بتنفيذ عملية برية واسعة النطاق، باعتبار أنها قد تتكبد فيها خسائر بشرية كبيرة. والسبب أنّ هذه العمليات تكشف عن قوة "حماس"، فإذا كانت قوات الاحتلال في المناطق المكشوفة من غزة تتكبّد مثل هذه الخسائر في الأرواح؛ فكيف لو تورّطت في عملية برية واسعة النطاق تضطر معها إلى خوض حرب شوارع في مناطق مكتظة بكتل بشرية ضخمة، فضلاً عن تأثير هذه العمليات على معنويات الجنود الصهاينة. ثالثاً: هذه العمليات لا تؤثر سلباً على "حماس" على مستوى الرأي العام العالمي؛ كما قد تؤثر عليها عمليات إطلاق الصواريخ أو العمليات الاستشهادية في العمق الصهيوني، باعتبارها تستهدف المدنيين، وفق منطق الدعاية الصهيونية. رابعاً: تعطي المقاومة الفلسطينية مزيداً من الدعم المعنوي، ومزيداً من الجرأة والثقة في كسر كبرياء جيش الاحتلال وغطرسته، وإنهاء أسطورته كجيش لا يُقهَر، وتحقيق الانتصارات عليه. ودلّل بن يشاي على ذلك بقوله: إنّ الفلسطينيين تلقوا الدعم المعنوي من إطلاق النار على موكب وزير "الأمن الداخلي" آفي ديختر، ومن قتل جندي صهيوني في بداية شهر آذار (مارس) الماضي، بالإضافة إلى عدد من عمليات إطلاق النار باتجاه جنود الاحتلال. الإمساك بزمام المبادرة ويُضاف إلى ما قاله بن يشاي؛ أنّ "حماس" وأذرع المقاومة الفلسطينية، برغم شدة وطأة الحصار على قطاع غزة، والعمليات الكبيرة للكيان الصهيوني ضده على غرار العدوان المسمى صهيونياً "الشتاء الساخن" التي كانت بمثابة محرقة للمدنيين؛ أثبتت أنها تملك زمام المبادرة في مقاومة المحتل، دون أن تتأثر بذلك. ففي خضم العدوان المذكور استمرّت عمليات إطلاق الصواريخ ضد المغتصبات الصهيونية دون توقف، وازدادت وتيرة العمليات النوعية بعدها. وبرأي مراقبين؛ فإنّ الوضع الراهن قد وضع حكومة الاحتلال في ورطة حقيقية، بين صعوبة المضيّ قدماً في عملية برية واسعة قد تفضي إلى خسائر بشرية كبيرة لجيش الاحتلال، على ضوء العمليات النوعية للمقاومة، طالما فُرض على هذا الجيش نمط "دفاع هجومي" لا مفرّ إزاءه من نشاط بري جارٍ داخل القطاع لإبعاد مطلقي النار وإبعاد التهديدات على حد قول أليكس فيشمان مراسل الشؤون العسكرية لصحيفة يديعوت أحرونوت ، وبين من يتحدث عن ضرورة التوصل إلى هدنة معها "لأنه الخيار الأقل تكلفة". إذ أنّ المشكلة، كما يقول محللون صهاينة، أنّ حكومة الاحتلال لا تضع مجالاً للتوصل إلى تهدئة في ظل الظروف الراهنة، لأنها تعتقد بأنه لو تم عقد مثل هذه التهدئة؛ ف"حماس" ستعتبر ذلك انتصاراً وإنجازا لها، وهي لا تريد وضعها في هذه النشوة، على حد تعبيرهم.