تحت الانقلاب العسكرى تعيش مصر عصر الاختطاف والمساخر؛ فقد اختطفت العصابة رئيس دولة منتخب؛ يحاولون إجباره على التنازل لهم عن السلطة بتقديمه إلى محاكمة هزلية.. واختطفوا دستور الشعب، واختطفوا مجالسه التى انتخبها بإرادته الحرة، واختطفوا فريقا من أبناء الشعب غيّبوا عقله.. بل اختطفوا دين الشعب ثم اخترعوا له دينا وإلها مزيّفين، وكرّسوا هذا كله بأغنيات يحاولون فرضها على أطفال المدارس فيما عرف باسم «تسلم الأيادى» و«إحنا شعب وانتو شعب».. فقسموا الشعب الواحد إلى شعبين وجعلوا لشعبهم ربّا آخر اخترعه لهم شاعر فاسق، وغنّاه مطرب غبى جهول استخفُّوا عقله، ثم طيَّروا أغنيته على الفضائيات الفاجرة لتغزو بها عقول جماهير مغيّبة. يظن زعيمهم أنه -بهذا الاختطاف المركّب- قد سبق الأوائل والأواخر باكتشافٍ عبقرى، أو هكذا زيّن له الشيطان عمله فانتفخ زهوا وفخرا، ولكن ضيق الأفق ومحدودية التفكير وضحالة الثقافة الدينية والتاريخية هى التى تعوق بعض الأدعياء المتألِّهين أن يدركوا أنهم لم يبتدعوا شيئا جديدا، وإنما هو تكرار لتجربة بشرية شيطانية عمرها آلاف السنين، سجَّلها القرآن العظيم فى آيات تُتلى عشرات المرات كل يوم وليلة، تسجيلا مفصَّلّا معجزا، قد يقرأها المسلم غافلا عما فيها من المعانى العميقة التى تطرحها على عقله بقوة وإلحاح كأنها أجراس إنذار، ولكن بعض الناس فقدوا القدرة على الربط بين المعانى والواقع الذى يعيشونه وظنوا أنها مجرد قصة انتهت وذهب عصرها إلى غير رجعة. اقرأ معى قصة السامرى الذى خطف شعب موسى وخطف دين موسى وحوَّل بنى إسرائيل من عبادة الله الواحد إلى عبادة عجلٍ له خوار.. لقد كان السامرى من أتباع موسى، رأى معهم المعجزات الهائلة التى تفجّرت على يدى نبى الله ورسوله، عندما انفلق البحر «فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» (الشعراء: من الآية 63) فعبر معهم إلى بر الأمان ورأى معهم كيف أطبق الماء على فرعون وجنوده فغرقوا جميعا، وعَلِمَ السامرى مع بنى إسرائيل أن فرعون جَأَرَ بالتوبة؛ فأعلن أنه قد آمن بإله موسى وهارون، ولكن بعد فوات الأوان!! إضافةً إلى ذلك: شاهد السامرى سلسلة من المعجزات الأخرى على أرض سيناء: المنَّ والسلوى، وينابيع الماء التى فجرها لهم موسى فى قلب الصخر ليرْتووا من ظمأٍ فى قيظ الصحراء المهلكة.. ورأى السامرى -مع بنى إسرائيل- كيف رفع الله الجبل فوق رءوسهم وكاد أن يدكَّهم به لأنهم -بماديتهم التى اعتادوا عليها- لم يتصوّروا أن يعبدوا إلها لا تدركه الأبصار أو تلمسه الحواس، فرفع الله الجبل فوق رءوسهم ليريهم قدرته وجبروته؛ لأن رؤية ذاته مستحيلة على مدارك الإنسان: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 63). شاهد السامرى مع بنى إسرائيل كل هذه المعحزات الإلهية التى تزلزل الوجدان، ولكنه كان مسكونا بنرجسيَّته (عشقه لذاته المتضخِّمة)، وعبادته لهواه واعتقاده أنه لا يَقِل قدرة على التأثير والإقناع عن موسى نفسه.. حسدا منه وحقدا عليه؛ فلما ذهب موسى إلى موعدٍ لمناجاة ربه، انتهز السامرى فرصة غيابه ليرتكب جريمته النكراء.. اسْتضعف هارون، واستند إلى حقيقتين فى الوصول إلى أهدافه الشيطانية: الأولى: أن شعب موسى -رغم كل المعجزات التى شاهدها- كان حديث عهد بالإيمان والوحدانية.. بعد قرون من العبودية والهوان وعبادة الطاغوت. وقد عبّر القرآن أروع تعبير عن هذه الحقيقة بقوله فى هذه الآية: «وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ» (البقرة: من الآية 93) لدرجة أنهم لما أراهم السامرى قوما يعبدون العجل فى أحد المعابد بسيناء تملّكهم الحنين إلى الماضى فنسوْا كل ما يتعلق بموسى ودينه ومعجزاته، وأخذو يتشوَّقون للعودة إلى العجل والعبودية التى استكانوا إليها زمنا طويلا. أما الحقيقة الأخرى: فتتمثّل فى كونهم كانوا جزءا قليل الشأن مستضعفا ضمن شعب كبير تمكّن الطغاة والكهنة -عبر قرون طويلة- من تطويعه وغسل دماغه بالخرافات والأوهام، لدرجة أن يصدّقوا أن الفرعون الحاكم إله من سلالة آلهة؛ حتى ليصفهم القرآن بالخفة والمهانة فى هذه الآية الشهيرة: «اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» (الزخرف: 54). لذلك سهل على السامرى أن يلعب بعقولهم وعواطفهم ويقنعهم بأن عبادة العجل هى العبادة الصحيحة التى كان عليها موسى ولكنه نسيها أو نسى أن يذكّرهم بها، وهذا ما توحى به الآية الكريمة: «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ» (طه: 88).. وهى آية يمر عليها الكثيرون فلا يتوقفون عند كلمة «فَنَسِيَ»؛ فقد أوحى إليهم السامرى أن موسى هو الذى خرج على الديانة الصحيحة وانحرف عنها أو نسيها، وليس أن السامرى هو الذى انقلب على الدين الصحيح الذى جاء به موسى من ربه. تنبّهْ إلى التعبير القرآنى المعجز؛ فقد كنا نتوقّع أن يأتى تقديم هذه العبادة المفتراة على لسان السامرى، ولكن القرآن يصوغها بلفظة «فَقَالُوا»، يريد أن يلفتنا إلى حقيقة أن الفرية التى اخترعها السامرى أصبحت مقولة على ألسنة المجتمع بعد أن شاعت فيه كأنها حقيقة، وهذا هو دور الإعلام السامرى؛ فقد كان السامرى أستاذ جميع المفترين عبر كل العصور. ومن يزعم لنفسه العبقرية والسبق فى كل ما جاء به الانقلاب العسكرى واهِمٌ ودعىّ، ولو كان السامرى حاضرا الآن لضحك حتى تتمزق أحشاؤه على الفرية الساذجة التى يرددها زعيم الانقلاب العسكرى: إن الشعب ثار فى 30 يونيه ليطلب منه التدخل بالانقلاب على الحكومة الشرعية، وإن بيان 3 يوليو كان استجابة لمطالب الشعب بالعودة إلى المسار الصحيح لثورة 25 يناير، وإنه ليس انقلابا ولكن ثورة.. أو أن الشعب قد فوَّضه لارتكاب المجازر الوحشية فى فض اعتصام رابعة وفى كل أنحاء مصر كما فعل، تحت ذريعة «القضاء على إرهاب محتمل». ثم نأتى إلى خاتمة القصة لنرى كيف تبجح السامرى عندما سأله موسى: «فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ» (طه: من الآية 95)؛ يعنى ما الذى جعلك تفعل الذى فعلت فى تضليل بنى إسرائيل؟ هنا جاءت فرصته ليتشفى من موسى ويكشف عن حقده الدفين له ويقلّل من شأنه، فيصرّح له متبجِّحا أنه لم يكن فى حاجة إلى معجزات لكى يصرفهم عن عقيدة التوحيد.. قال: «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» (طه: 96). وبعيدا عن التفسيرات الساذجة التى اعتمدت على الإسرائيليات، نذهب إلى الإمام فخر الدين الرَّازى فى «التفسيرالكبير»؛ فقد رأى أن الرسول المشار إليه فى الآية هو موسى عليه السلام، وأن الأثر الذى نبذه السامرى (متفاخرا) هو بعض تعاليم موسى الدينية التى تؤكّد الألوهية المتعالية عن التجسيد والتشبيه؛ نبذها السامرى واستبدل بها عجلا جسدا [مرئيّا] له خوار [مسموع].. مستندا فى جرأته على جبلّة مادية عميقة الجذور فى عقلية اليهود.. لذلك كان مطمئنّا إلى أنهم سوف يستجيبون مرحبين بانحرافاته وتضليله. إنها العقلية نفسها التى يتبجّح بها زعيم الانقلاب اليوم عندما يزعم أن من صالح الدولة أن يبقى الجيش متحكّما فى السلطة، وأن يُصاغ لذلك دستور جديد يضمن وصاية العسكر على الشعب والهيمنة على النظام السياسى، وأنه لا يصح أن يكون الرئيس الأعلى للقوات المسلحة رئيسا مدنيّا حتى ولو انتخبه الشعب بإرادته الحرة. لذلك كله أقول: إننا نعيش عصر الاختطاف والمساخر، مع سامرى هذا الزمن..! وإن الأمر ليس فيه سبقٌ ولا عبقرية؛ وإنما هو إحياء وتكرار لتجربةٍ شيطانية تنتكس بالبشر دائما من عبادة الله الواحد الأحد إلى عبادة العجل الذى له خوار.. يستوى فى هذا أن يكون العجل رمزا لحيوان أو إنسان أو فكرة إلحادية، من الأفكار التى شاعت فى المجتمع بعد الانقلاب. [email protected]