السامرى الذى بداخلنا

هناك قصة قرآنية لها تأثير كبير فى تفكيرى. موسى عليه السلام يسأل السامرى بعد أن تركه مع قومه ذاهبا لمناجاة ربه: «قال فما خطبك يا سامرى» فرد السامرى الذى كان قد صنع عجلا ليعبده بنو إسرائيل قائلا: «قال بصرت بما لم يبصروا، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، وكذلك سولت لى نفسى» (الآيتان من سورة طه 95 و96) وقد اختلفت عبارات المفسرين فى معنى كلام السامرى، ولكن يبدو أن السامرى رأى جبريل عليه السلام (مع تعدد الأقوال فى تحديد وقت الرؤية وسببها) راكبا فرسا، فقبض من أثر قدم جبريل عليه السلام، أو من أثر حافر الفرس قبضة، ثم ألقاها فى جوف العجل حين صنعه فأصبح يصدر خوارا، أو انقلب إلى عجل حى بسبب هذا الأثر. وهناك تفسير آخر يقول إن كلام السامرى كذب وادعاء، فهو لم يبصر ولم يقبض ولم ينبذ شيئا، إنما قال ما قال ليلقى التهمة على غيره، وليتنصل من المسئولية عما فعل. والقرآن الكريم فقط سجل ما قاله من كذب.

لكن المعنى الذى أريد أن ألفت النظر إليه أن الإنسان يمكن أن يخطئ خطأ بالغا حين يزعم لنفسه فضيلة من باب أنه «بصر» أى علم ما لم يبصر به الآخرون ويقود الناس إلى الباطل وهو يحسب أنه يحسن صنعا. ولنتذكر كمَّ القرارات الخاطئة التى اتخذها السياسيون فى مصر فى آخر مائة عاما بمنطق «بصرت بما لم يبصروا به» وبعد ما تقع الكارثة وكأنهم يقولون: «وكذلك سولت لى نفسى».

وفى كثير من الأحيان يقول الإنسان لنفسه هذه مشكلة محلولة فالأمر القرآنى ومعه الحدس السليم يقول فليستعن أحدنا على ضعف نفسه وقصر بصره بالآخرين استشارة وتباحثا وتعلما ثم يستخير ربه سائلا إياه المعونة، فهو سبحانه يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر.

ولكن يعود الإنسان ليسأل: كم من مرات استجاب للنصيحة ولنتائج التشاور ووجد نفسه خاسرا ولو كان ترك الأمر لقرار نفسه دون «مشورة» أحد لما أقدم على الخطأ الذى أقدم عليه؟ صحيح أن السامرى لم يستشر أحدا فى ما يظهر من الآية، لكن صحيح أيضا أننى مع نفسى استشرت فى بعض الأمور، وكانت عاقبة أمرى خسرا فى حدود ما يغلب على ظنى. ووجدتنى أتحمل ما لم أكن أطيق أو أحب، وما لو عاد بى الزمن لما فعلت رغما عن المشورة. إذن هو قدر الله، أو ربما «كذلك سولت لى نفسى».

إنها معضلة أن يجد الإنسان نفسه مقصرا فى أى قرار يتخذه: إن أقدم ندم، وإن تراجع ندم. إنها الحيرة التى تدل على الضعف البشرى وعلى أن السامرى الذى بداخلنا قوى علينا: «بصرت بما لم يبصروا به» قبل القرار والفعل، ثم «وكذلك سولت لى نفسى» بعد الخطأ والندم. إنه السامرى الذى بداخلنا.

اللهم أرنا الحق حقا، اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، اللهم لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.