موجة الحر الشديدة التي تعانيها مصر الآن، وفراغ الشوارع والطرق من المارة بعدد من المحافظات، تطرح السؤال: كيف قاوم المصريون على مر العصور موجات الحر الشديدة دون الاستعداد للطقس؟ كيف اقتنص المصري الهواء لتُحتمل الحياة دون المكفيات والكهرباء؟ المروحة المصنوعة من جريد النخيل، كما ابتكرها بسطاء المصريين، والمروحة المصنوعة من ريش النعام، كما كان يتخذها حكام مصر، كانت من ضمن الأدوات التي قاوم المصريون بها الحر الشديد، كما يؤكد فرنسيس أمين الباحث التاريخي، مشيرا إلى أن المنوط به أن يمسك المروحة للحاكم هو ابنه الأمير الشرعي. وصورة العبيد الذين يجلسون حول الملك وهم يحملون مراوح طويلة، وهم وقوف والملك جالس، كما تسرد الأفلام القديمة، لم يكن معمولا بها في مصر القديمة، وإن كان معمولا بها في العالم أجمع، ما عدا مصر، التي جعلت المنوط به أن يمسك المروحة ليجلب الهواء لأبيه هو الوريث فقط، وليس العبيد. وكان الحر عقابا شديدا لقوم سيدنا شعيب، الذين كذبوه وعبدوا شجرة من دون الله، تدعى "الأيكة"، كما يشير القرآن الكريم "فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ"، حيث يؤكد المفسرون أن قوم سيدنا شعيب استمَرُّوا على تكذيبه فأصابهم الحر الشديد، وصاروا يبحثون عن ملاذ يستظلون به، فأظلتهم سحابة، وجدوا لها بردًا ونسيمًا، فلما اجتمعوا تحتها التهبت عليهم نارًا فأحرقتهم، فكان هلاكهم جميعًا في يوم شديد الهول. في العصر الفاطمي، كانت الجبانات، وبالأخص قرافة القاهرة، التي كانت عاصمة مصر الجديدة آنذاك، المتنفس لأهالي القاهرة من موجات الحر العنيفة، كما يوضح الباحث الأثري محمود حجاج، لافتًا إلى أن المؤرخ المقريزي ذكر أن الحاكم العزيز بأمر بالله كان متساهلا مع المصريين في قضاء أوقات السمر ومقاومة الحر في الجبانات، رغم وجود حالات انحلال أخلاقي جعلت نجله الحاكم بأمر الله، الذي تولى الحكم من بعده، أن يستصدر قرارات، منها منع خروج النساء من المنازل بعد المغرب. ولولا قسوة الحر الشديد ما تم ذكر أمكنة قديمة كان يتخذها الحكام والبسطاء لقتل الطقس المميت، مثل منطقة الخليج، الذي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها متنفسا بعيدا عن القرافة، التي اتخذها المصريون البسطاء، بالإضافة إلى نهر النيل. وقسوة الحر الشديدة هي التي هيأت للشعراء العرب أن يذكروا "كوكب الشعرى"، وهو الكوكب الذي تم ذكره في القرآن الكريم "وإنه هو رب الشعرى"، فالعرب وبعض المصريين عبدوا ذلك الكوكب الذي كان بداية الانقلاب الصيفي وهبوط الرياح الموسمية الصيفية المحملة بالأمطار في العصور القديمة قبل استقرار الطقس. و"مخروط العطور" الذي استخدمه المصريون القدماء، خاصة النساء، وهو النوع الذي كان يوضع على الشعر فيجعله منعشا، بالإضافة إلى ملابس الكتان التى كانت من الأدوات المقاومة للحر، كما يؤكد الباحث فرنسيس أمين، مشيرا إلى أن العطر المخروط كانت حرارة الجو تجعله يذوب على الشعر فيعطي انتعاشا للإنسان، لافتا إلى أن التوارة ذكرت عن سيدنا هارون عليه السلام قصة هذا العطر الذي كان يقاوم الحر الشديد. البحث عن الهواء هو الذي جعل المصري القديم يهتدي لزراعة الأشجار وافرة الظلال، كشجرة الجميز، التي كان يهرع لها مئات المصريين ليستظلوا بظلها، وربما تكون هي محط أنظار العمال الذين يذهبون إليها في وقت الراحة، ومن أجل البحث عن الهواء كان شراع المركب النيلي هو رمز الحياة، مما جعل أحد المصريين القدامى يقول في أحد أشعاره: "إن أجمل الأشياء أن ينام في مقدمة مركب". وليست هناك إحصائيات موثقة عن الذين ماتوا غرقى هروبا من الحر في نهر النيل، أو ماتوا وهم لا يستطيعون مقاومة الحر الشديد، إلا أن هناك شذرات تركها بعض المؤرخين في العصور اللاحقة، مثل ما ذكر أنه في أحد العصور المملوكية "أصاب الناس حر شديد أعقبته ظلمة أدت إلى موت بعض المواطنين". ويؤكد ضياء العقباوي الباحث التاريخي، ل"بوابة الأهرام"، أن المصريين كانوا يصنعون واجهتين في بيوتهم، الناحية البحرية، حيث ينتقل أهل المنزل لهذه الناحية البعيدة عن الشمس صيفا، ثم الناحية القبلية التي كانت تواجه الشمس، التى يتم الانتقال إليها شتاء، لافتا إلى أن أغلب الوثائق التاريخية لم تتحدث عن أهوال الصيف مثلما تحدثت الوثائق عن أهوال الشتاء، التي أدت إلي موت جيوش جرارة، ووقوعها تحت حصار البرد والجوع. ويؤكد فرنسيس أمين أن المناظر على المعابد، مثل المظلات، التي ابتكرها المصريون للوقاية من الحر، بالإضافة إلى الملابس الخفيفة، ترصد طقوس القدامى في أوقات الصيف الشديد، مشيرا إلى أن المصريين من معرفتهم بقسوة الحر سكنوا في المنازل المبنية بالطوب اللبن، ويتساوى في ذلك الأمر الملوك والبسطاء، لافتا إلى أن هندسة المعابد كانت بها أماكن للتهوية. وأدى المناخ وتقاربه مع البيئات إلى هجرة شعوب وقبائل للاستقرار في أماكن بعيدة، فالمناخ الجاف المداري الحار الشبيه بمناخ بلاد الحجاز في مكة واليمن هو الذي أدى إلى استقرار مئات القبائل العربية في صعيد مصر، فالقبائل كانت تريد مناخا يتشابه مع موطنها الأول.. هذا ما يؤكده "العنقاوي"، مشيرا إلى أن الحر الشديد ارتبط في مصر بكثير من الأوبئة، خاصة وباء الكوليرا، الذي قضى على آلاف المصريين. ويوضح ضياء أن الحر الشديد والأوبئة هما ما أعاقا الحملة الفرنسية عن التوغل في الصعيد، لافتا إلى أن قسوة الحر هي التي هيأت العرب على استخدام الطب الشعبي في ضربة الشمس، موضحا أن كثرة الأوبئة في أوقات الصيف هي التي جعلت البحث عن موتى الطقس بدون إحصائيات موثقة، فالموتي الذين كانوا بالمئات كان يتم دفنهم في قبر واحد دون الالتفات لسبب موتهم، سواء بسبب الكوليرا أو بسبب الحر الشديد.