تحت رعاية الأب كيرلس تامر راعي الدير، اجتمع حوالي مئة من الراهبات والرهبان، المكرسات والمكرسين، للمشاركة في ندوة الكون، أنا.. الآخر.. الخليقة، أيقونة الجمال الإلهي التي نظمها دير العذراء سيدة البشارة للأقباط الكاثوليك بكينح مريوط بالإسكندرية، وشارك فيها د.لطفي الشربيني استشاري الطب النفسي، والشاعرة والإعلامية فاطمة ناعوت.من جانبها تناولت فاطمة ناعوت موضوع الجمال الذي انشغلت به في مشروعها كله: في الشعر والنقد والترجمة والكتابة الصحفية ، حيث تجاوزت الجمال الشكلي الخارجي الذي ركز عليه د.لطفي الشربيني في محاضرته، حينما سؤال يدخل عمق الموضوع وهو ما مدى قدرتنا على صنع الجمال .كما تحدثت عن أهمية الاشتغال على النفس للوصول إلى الجمال الذي ننشده، وضربت مثلاً بمريضيْ سرطان، أحدهما استسلم للمرض فهزمه الموت، والآخر قاوم فشفيَ، وهو الموضوع الذي تناوله فيلم إنت عمري، وأشارت إلى أن راسبوتين نجا من السم لأنه كان يمتلك الإرادة، بينما مات سقراط بالسم لأنه كان يريد أن يموت، وهو المبدأ المعروف في علم النفس باسم Mind over Matter، أي أن العقل يسيطر على المادة.صناعة الجمالوفي محاولة تعريف الجمال قالت ناعوت إن اللغة قاصرة، سيما في تعريف الأمور غير المعيارية، وهل أكثر لا معيارية من الجمال؟ على إنها أكدت على أهمية التنشئة على تعلّم الجمال، وتذوقه، وافتقاده إن غاب، ثم إنتاجه. لأن صناعة الجمال هي أهم وظائف البشرية على الأرض.الاشتغال على النفس يمكنك من أن ترى جمالاً فيما يتفق الجميع على أنه ليس جميلاً، هكذا قالت حين أرادت التدليل على نسبية الجمال، فما يراه أحدنا قبيحًا يراه الآخر جميلاً، لهذا يجب أن ننزع تاريخنا الشخصي حين نشاهد الأشياء من حولنا.وضربت مثلاً بالغراب الذي يتفق العرب على أنه نذير شؤم، لأنه في تاريخهم رمز لحفار القبور لأنه دلّ أحد أبناء آدم إلى طريقة دفن أخيه، وأيضا لم يعد بخبر للنبي نوح حين أمره بفحص بقعة جفّت من الفيضان.فإذا ما نحينا هذين الحدثين جانبًا ونظرنا إلى الغراب نظرة محايدة سنرى كم هو جميل في حلته الرمادية أو السوداء كرجل متأنق يرتدي الاسموكنج. وكذلك يمكن النظر إلى الصرصار، أضافت فاطمة ناعوت، فلو أعطينا صرصارًا وفراشة لرجل من كوكب غير كوبنا، وطلبنا منه أن يقدم تقريرًا عما يراه، لن يجد فارقًا كبيرًا بينهما، من الناحية التشريحية، فكلاهما حشرة طائرة، بجناحين نصف شفافين وقرون استشعار، وعيون عدسية مركّبة. الخ، إلا أن تاريخنا الثقافي والعملي يربط بين الصرصار والقذارة، لذلك فهو رمز للقبح.أوهام فرانسيس بيكون الأربعةانتقلت فاطمة ناعوت بعد ذلك للحديث عن أوهام فرانسيس بيكون الأربعة التي تعوّق تواصلنا مع العالم ومع الله: الأول وهم الجنس البشري، أو وهم القبيلة، الذي يجعل المرء معتزًّا برأيه وإن كان خطأ، فلا يستمع لآراء الآخرين، الثاني وهم الكهف، واستعار بيكون المسمى من أسطورة الكهف لأفلاطون، وفي هذا الوهم تتحكم التجارب الشخصية الضيقة التي نمر بها في نظرتنا للأمور دون موضوعية. الوهم الثالث وهم السوق، فالناس يذهبون إلى الأسواق ويتبادلون الكلام غير الموثق ثم يتناقلونه باعتباره حقائق مؤكدة.وفي هذا استشهدت بقصة من كتاب كن إنسانًا للأب كيرلس تامر تقول إن رهبانًا وجدوا رضيعًا أمام باب الدير، فأخذوه وربوه حتى صار صبيا ولم ير العالم الخارجي أبدًا. وفي أحد الأيام أرسله الأب مع أحد الرهبان الذي يشتري لهم احتياجاتهم من السوق، ليتعرف على دنيا الله. رأى الصبي فتاة جميلة فسأل ببراءة: ما هذا؟ فجذبه الراهب بعيدًا وقال: هذا الشيطان. وعندما عادا سأله الأب: هل رأيت العالم؟ قال: نعم، فسأله: ما أجمل ما رأيت؟ قال: الشيطان. أما الرابع فهو وهم المسرح، فالناس ميالون إلى تريد الأقوال المأثورة التي ننقلها عن السلف، دون تأمل أو تفكير بوصفها أقوالاً مقدسة لا تقبل الجدل.واختتمت ناعوت المحاضرة بقراءة قصيدة أنا مسلم التي ترجمتها عن الشاعر الإيراني سهراب سيبيهري التي يقول في مطلعها: أنا مسلم/ أقف قبالة الوردة الحمراء لأصلي/ أنبطح فوق رقائق الضوء لأصلي/ الحقل هو سجادة صلاتي/ أؤدي وضوئي بخفقات النوافذ/ في صلاتي ثمة جيشان قمر/ وثمة دفقات قوس قزح مضيء/ من وراء صلاتي ثمة حجر كريم يمكن رؤيته/ وتلك البلورات البراقة هي جريئات صلاتي.اسفكسيا الجمالوعن درجات الجمال ومستوياته تحدثت ناعوت الجمال الطاغي الذي لا يملك الإنسان إمكانيات استيعابه، والذي أطلقت عليه مصطلح اسفكسيا الجمال، الذي هو الدرجة العليا من الجمال التي لا نستطيع أن نتحملها، والمتمثلة في جمال الله، الذي ربما حجب نفسه عنا لأنه لا قدرة لنا على تحمل نوره.كذلك النار التي قد تحرق مدينة بأسرها، هي ذاتها التي نأخذ منها قبسًا قليلاً لتغدو شمعة تنير ليلة حبيبين. النار في ضخامتها لا نتحملها، بينما في قليلها جمال وعذوبة، ليس أجمل من شكل اللهب في تراقصه وتبدّل ألوانه وفيوضه بين الأحمر والبرتقالي والأرجواني والأزرق، لذلك ابتكر الإنسان الشمعة ليحصّل مشاهدة النار التي تغذي فيه منازع الجمال والرومانتيكية، النار في بهائها اللانهائي هذه لا نستطيع لمسها، ليس لأنها حارقة، لكن لأن درجة جمالها تفوق قدرة المرء على التحمّل.كذلك لوحات الله التشكيلية التي يرسمها لنا يوميًّا في غيمات السماء وعلى صفحة البحر بالموج والزبد، هي لوحات من الجمال نستمتع بها ولا نقدر على امتلاكها. ونحن لجهلنا نربط بين الجمال وبين الشهوة في امتلاكه، بينما الجمال لا يُمتلك.اكتشاف الجمال حتى في القبح .وعن اكتشاف الجمال حتى في القبح قالت ناعوت القبح ليس ضد الجمال، بل ضده هو غياب الجمال، مثلما أن عكس الحب هو اللامبالاة وليس الكراهية التي تعد نوعًا من الحب السلبي، أو ما درجت الذائقة الإنسانية على اعتباره قبحًا.وتابعت إن أقل أنواع الجمال هو الجمال البصري الذي نتيه به ونكتب عنه الأشعار ويرسمه التشكيليون ويغني له المطربون.