انتهت الحرب العالمية الثانية وبدأ نظام إقليمي جديد لدول منطقة الشرق الأوسط، فولت الحقبة الاستعمارية وحلت محلها أنظمة مستقلة. وبينما عرف الغرب السلام، شهدت منطقتنا الحروب المتتالية في الأعوام 1948، 1956، 1967، 1973، 1975، 1980، 1982، 1990 (يصعب حصر سنوات الحروب، أم هل نسينا حروب اليمن وحدها!)، عدا عن الانقلابات والثورات العسكرية في مصر، وسورية، وليبيا، والعراق، والسودان، وعدا عن حروب الاستقلال في الجزائر، وتونس، وفلسطين، وعدا عن الفترات الطويلة من الحروب الأهلية في الجزائر، والسودان، والصومال، ولبنان، وأكيداً اليمن، وعدا عن ظهور دول لم تكن موجودة كجيبوتي والصومال وجزر القمر، أو بشكلها القسري كإسرائيل، فمن أين لمنطقة شهدت هذه الاضطرابات أن ترتفع معدلات التنمية فيها؟ التنمية المرادفة للاستقرار ولعقول متفرغة للبناء والارتقاء وليس لاعتلاء ظهور الدبابات، (إسرائيل جمعت بين الاثنين) والغريب أن ارتفاع معدلات الاستهلاك كان السمة المشتركة بين دول المنطقة حتى الدول الفقيرة نسبياً، والتي تعتمد أساساً على القروض والمعونات الخارجية، وها هي بلادنا العربية بارتفاع ديونها وبعجز موازناتها وبشللها عن الإنتاج والإنجاز الداخلي، وها هي الولاياتالمتحدة لم تسلم من الديون والعجز في ميزانها، ولكن، انظر إلى تنوع وسائل إنتاجها بعجلة اقتصادها الدائرة على رغم كل شيء، ويا سبحان الله على عجلتنا المحتاجة دائماً إلى «تزييتها» ويا ليتها تدور! لا عليكم، أكيد العيب في الزيت «المغشوش»!! لنعد إلى الحرب الباردة بين الشرق والغرب وتأثيرها علينا، فقد تعرضت دولنا إلى ضغوط لحملها على الانحياز إما إلى معسكر الشرق أو إلى معسكر الغرب، فكيف تصرفت؟ أعلنت مصر (ومعها الهند ويوغسلافيا) تشكيل حركة جديدة عرفت بعدم الانحياز بهدف إيجاد نوع من التوازن بين الكتلتين العظيمتين، وإعلان موقف لدول العالم الثالث في جنوحها للحياد، حسناً، عدم الانحياز يعني عدم الانخراط في الصراعات الدائرة، يعني اتساع رقعة التركيز على الشأن الداخلي وتطويره، فهل صار ذلك؟ كل ما تفتقت عنه الحالة المصرية بكل ثروتها الزراعية هو التأميم والملكية العامة لوسائل الإنتاج لتصبح الدولة هي المورد الرئيسي للاستثمار، فلا نهضة صناعية ثقيلة ولا تغيير هيكلياً له وزنه، وإنما المزيد من الوصاية والقبضة الأمنية على العباد والمقدرات، في وقت يزداد فيه حجم السكان باضطراد، فترتفع نسب البطالة، والمطلوب من الشعب، وفي ظل القرف اليومي الذي يكابده ليلحق بلقمة عيش مغموسة بقهر وإهانة وقلة حيلة، أن ينتج ويبدع ولا يتجه للمخدرات ولا لبؤر الإرهاب والخلاص الوهمي بأشكاله، وليتغنى بأمجاده الغابرة يعوض بها نقصه، فهل يستقيم أن تقصر ثم تنتظر نتيجة من لم يقصر؟ فماذا إن تميز أحد في ظل هذه الفوضى! هو استثناء ومجهود شخصي ولا شك، فلا نقيس عليه لنبرر لأنفسنا غباء سياساتنا وأنانيتها، فنحن نقصد المجتمع بقاعدته العريضة، وليس الخاصة الضيقة والمحصورة بفلان العبقري وعلان فلتة زمانه. وعلى قول السيدة الليبية المسنّة التي تكرر قناة «العربية» ترديد صوتها بحرقته الصادقة بخلفية صورتها بين «عشش» الصفيح: كيف يعيش لاعب الشطرنج الفاشل «متهني هو وعياله وتارك الشعب الليبي فقيراً ويعاني»، لتختصرها السيدة المصرية بعبارتها الجامعة: «لو تركنا نعيش، كنا تركناه يعيش»، وهنا المربط، فالفكرة المسيطرة على الأنظمة المستبدة: اشغل الشعب بلقمته ينشغل عنك بتأمينها، وكان الأولى أن تكون: اشغل الشعب بعقله وعلمه وتطوير مكانته، ينشغل عنك بالحفاظ على مكتسباته وما تعب من أجل تحصيله، كما ينشغل بالاعتزاز بحياته وعدم التنازل عن تحضّره أو التفريط بمدنيته، ولكنك حاربت العقل، فارتد عليك العقل نفسه، وليس أخطر من الهجمات المرتدّة. نقلا عن جريدة الحياة اللندنية