"كناسة الدكان" تعبير تراثي. استخدمه بعض المؤلفين. إشارة إلي "تنيف" دكاكين العقل والفكر في نهاية اليوم أو نهاية العمر. وإخراج بقايا مخلفات هذه الدكاكين أو كناستها. بما فيها من غث وثمين. وما فيها من أعاجيب وحكايا وعبر وحكم وأمثال وأشعار وقصص وأساطير وأوهام وتنبؤات!! التعبير هذا ونه وطوره الكاتب الصحفي الكبير والمفكر السياسي محمد العزبي في كتاب أصدره ضمن سلسلة كتاب الجمهورية. يحمل عنوان: "كناسة الصحف". وأنها المقالات التي أبدعها في الجمهورية وحريتي وربما صحف أخري.. وهي أعمدة ومقالات جديرة بأن تدون وتحف في كتب أطول عمرا وأسهل تداولا من الصحف السيارة. خاصة مع اقتراب نهاية الأعمار الافتراضية لكل الصحف الحكومية التي يسمونها قومية!! مقالات الأستاذ العزبي تدخل في نسق المقالة الأدبية غالبا. وإن لم يعالج فيها موضوعا فكريا أو إبداعيا. وإن لم يقصد بها نقدا تنيريا أو تطبيقيا لنص أدبي أو لنرية أدبية.. فمقالاته تتسم بمداخل خاصة تجذب القاريء. وموضوع محوري يشغل الرأي العام. وتويف للشخوص والزمان والمكان. والاستعانة بآلية الوصف الذي يبدو حين يتحدث عن المعتقل مثلا لوحة تشكيلية تنزف دما.. ثم إنه يسرد مقاله بلغة منسابة "شقية" قد تحلق في الخيال إلي حد قوله: "البولينا في دمه. وحب الناس في دمه" واصفا فاروق منيب. و"اعتبروني خائنا مارقا عميلا. أقل ما يفعلونه بي هو حرماني من الجنة التي يقفون علي بابها" حين يتحدث عن التنيم الطليعي الذي رشح له. ثم رفض الترشيح من جهات ما.. و"في الزنزانة الانفرادية يموت الزمن". ولديه موسيقاه الداخلية. بتقسيم العبارة. وانتقاء المفردة الهامسة طبقا للحالة المعبر عنها. وجل الكتاب يعد استنطاقا للماضي. من أجل استخلاص حكمة الحياة ورسم ملامح المستقبل.. ففي حادثة المنصة مثلا. الرجل الذي وقف يواجه الارهابيين وهو السادات ذهب شهيدا. والرجل الذي اختبأ تحت الكراسي وهو حسني!! أصبح رئيساً!! ثم إنه طغي وتجبر وفسد وأفسد فأصبح حبيس كرسي متحرك في قفص الاتهام!! وفي سياق استنطاق الماضي هذا ركزت أكثر فصول أو مقالات الكتاب حول محورين: الأول هو المعتقل وأيامه.. والثاني هو رثاء الراحلين وإنصاف الملومين منهم. وإن جاء الانصاف بعد فوات الأوان. عن المعتقل في القلعة والواحات والقناطر يقدم الوجه الطيب وحده لكل المعتقلين. وخاصة رفاق المهنة: جلال السيد وسيد حجاب وصبري حاف وإبراهيم فتحي وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وصلاح عيسي وجمال الغيطاني.. وقد كانوا حينذاك وهم زملاؤه في المعتقل أقانيم الوطنية والتضحية أيام الزعيم عبدالناصر الذي أحبوه رغم اعتقالهم. حتي إن شهدي عطية كان يهتف باسمه وهم يعذبونه حتي الموت!! وكان من هؤلاء المعتقلين علي ما يبدو علي بينة بأن من حول عبدالناصر وليس هو أفسدوا الثورة ونشروا الذعر وانتهكوا الحريات. وبعض هؤلاء المعتقلين الذي مد الله أعمارهم حتي الآن أمثال إبراهيم فتحي لوا صامدين علي المبدأ. لم تتغير مواقفهم ولم يتمكن نام السادات ثم نام المخلوع مبارك من احتوائهم. بينما تحول آخرون وساروا في ركب السلطة ونالوا الحوة والمال والشهرة تحت لال المخلوع علي وجه التحديد. حتي إن وفدا منهم. ومن غيرهم. ممن يسمون أنفسهم مثقفين. جلبهم فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق. إلي حسني مبارك في قصره ليعلنوا دعمهم له في فترة رئاسة جديدة قبيل ثورة 25 يناير بعدة أشهر!! وخرج هؤلاء المعتقلون القدامي يطبلون لحسني وديمقراطيته وحاجة البلد إليه!!! هل علمت تجربة المعتقل هؤلاء الأدباء والمثقفين أن يتنازعوا وأن يسلموا بالأمر الواقع والنام الواقع والديكتاتورية الواقعة؟!! ربما!! وإن لاح قاريء الكتاب أن الكاتب صور المعتقل بطريقة عذبة قد تشجع الناس علي التجرؤ عليه كسجن أو حتي السعي إلي الالتحاق به!! ففيه نري خامات عالية وشدوا جميلا لأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب. وفيه تجتمع بما لا تستطيع من الأصدقاء والمعارف والمشاهير!! وفيه تعلم الصمود والاحتمال والأمل. وفيه تنكشف معادن الرجال. الخط الثاني في هذا الكتاب هو فيض الوفاء والحب لكل الراحلين من مفكرين وأدباء وصحفيين صادقهم وعايشهم وسمع بهم الكاتب أمثال رجاء النقاش ومجدي مهنا وسعاد منسي وجلال السيد وإبراهيم أصلان والشيخ كشك الذي تنبأ بموت القذافي ميتة لا يجد بعدها مدفنا له!! وفي سياق هذا الرثاء الذي ينجذب إليه الكاتب انجذابا وكأنه يواسي نفسه من وحدة يعيشها بعد تساقط من حوله. يلتقط وقائع الموت والراحلين حتي لو كانت أم الصحفي الأمريكي توماس فريد مان!! وإذا كان الأستاذ العزبي يأسي لوحدته ورحيل كل رفاق دربه. فإن أحدا. ليتساءل: هل سيحتل بعد حين طال أم قصر سطراً ضمن الراحلين في كتاب قادم للكاتب الكبير؟!!