كناسة الصحف من الأعمدة القليلة التي أحرص علي متابعتها في الصحف اليومية عمود «من غير ليه» للزميل الأستاذ محمد العزبي في جريدة الجمهورية، وكنت قد زاملته في فترة مبكرة من عملي الصحفي في نفس الجريدة في السبعينيات وأعرف عمق ثقافته ودماثة خلقه وتواضعه. أما كتابه الجديد «كناسة الصحف» الذي استعار عنوانه من كتاب ممتع ليحيي حقي هو «كناسة الدكان» فإنه صحح لي موقفا كان الراحل الدكتور «علي الراعي» قد شجعني عليه حين قال لا تنشري في كتب ما كان من المفترض أن آلاف القراء قد اطلعوا عليه في الصحف السيارة، وقد غيرت رأيي لأن كتاب «محمد العزبي» الجديد فضلا عن الرشاقة والقدرة علي الإمتاع وموهبة التصوير الساخر يسجل لمرحلة من حياتنا كان لابد من حفظ معالمها بين دفتي كتاب، ذلك أن معظم الأعمدة التي اختارها تتناول وقائع ومواقف أثناء وما بعد 25 يناير، وهناك أيضا المدن التي زارها والأصدقاء الذين رافقهم والشخصيات التي أجري معهم الحوارات، إضافة إلي ملف الحريات العامة، فقد كان «العزبي» واحدا من آلاف المثقفين الذين تعرضوا للاعتقال دون تهمة حقيقية في زمن عبدالناصر، وفي هذا السياق يذكرنا بكتابات الذين تعرضوا للتعذيب والاعتقال دون تهمة حقيقية في زمن عبدالناصر، وفي هذا السياق يذكرنا بكتابات الذين تعرضوا للتعذيب والاعتقال والفصل من أعمالهم ومصادرة حرياتهم في كل العهود وتفتيش منازلهم وتدمير أسرهم «وكانوا يمنعوننا من السفر عقابا ومن باب العند، أو لأن مزاجهم غير معتدل، والمسموح به خمسة جنيهات تضيع قبل مغادرة المطار، وقد فكر كثيرون ألا يعودوا، ولم يعودوا فالوطن لم يعد للجميع» حيث لا يملك أحد الوقوف في وجه تعليمات مسئول كبير كتب بخط يده عن واحد من الضحايا «تلفق له تهمة». ويتوقف كثيرا أمام ما يلحقه القمع بالإنسان من أذي ويتساءل ألا يأتي علي هذا الوطن يوم نجد أمامنا خيارا رابعا غير الموت أو الهجرة أو الزنازين «الإنسان ذلك الكائن الغريب الذي إذا أهين مات وإذا أعطي فرصة أبدع» فلدي العزبي ضعف شديد تجاه الذين حرموا من حرياتهم بسبب هؤلاء الذين يرون في الثقافة «ألد أعدائهم». ومن أوروبا إلي آسيا حيث يلتقي في هانوي أثناء العدوان الأمريكي الوحشي عليها بالجنرال «جياب» «واحد من الأساطير العسكرية في القرن العشرين، وكان هادئا وكأن الحرب قد انتهت، وكان واثقا من النصر، وقد انتصر وكان يملأ جيوبي بالحلوي من أجل أطفالي في مصر». وبطريقة التداعي الأدبية يحكي «العزبي» حكاية حذاء الصحفي العراقي الشاب «منتظر الزيدي» مع «جورج بوش» فما كاد يبدأ المؤتمر الصحفي للرئيس الأمريكي بصحبة رئيس الوزراء العراقي حتي انطلقت فردة حذاء مصوبة بقوة ومهارة إلي المنصة مع صوت يدوي «هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي يا كلب» أعقبتها الفردة الثانية، وقد تفادي بوش الحذاء برشاقة ودهشة. ثم يستدعي الكاتب قصصا مختلفة للأحذية السياسية التي انطلقت هنا وهناك، والمهم أن «منتظر الزيدي» لم يستطع الحصول علي تأشيرة لدخول مصر حتي بعد الثورة! «آفة حارتنا النسيان» هكذا قال «نجيب محفوظ».. وعن هذه الآفة البغيضة يحدثنا العزبي عن أدباء وفنانين جري نسيانهم في المحنة وتركهم الجميع نقابات وأصدقاء ليواجهوا مصائرهم وحيدين، ثم يحكي بالتفصيل قصة نضال الكاتب والمحامي صبري العسكري دفاعا عن «ألف ليلة وليلة» كتاب العرب الذي تعرض لمحاولة المصادرة من قبل تيارات الظلام والتخلف وكيف أنقذته مذكرة تاريخية بكل معني كتبها «العسكري». وفي إطلالة مؤلمة علي فساد الكبار الذي تكشف لنا بعد الثورة أن ما كنا نعرفه عنه ليس إلا طرفا ظاهرا من عفن كالجبال يقول «تهمني الهدايا بالملايين التي قدمتها الصحف القومية من الدم الحي، فبعضها يخسر يصعب عليه تدبير أموره وكلها تدفع مرتبات هزيلة، كم أود أن يذاع سر ما كان يجري في الخفاء، ويقدم قربانا ليس فقط «لزكريا عزمي» وإنما أيضا للآخرين». ويرصد تشابه الآليات الداخلية لعملية القمع المنظم التي يمارسها كل من الاستبداد السياسي والاستبداد باسم الدين حيث الاندفاع في إطلاق الأحكام والفتاوي التي تبدأ وتنتهي بالتحريم والتكفير.. وكما يتوقع البعض ساخرين من أفعال زعماء الإسلام السياسي «لا تناقش ولا تجادل يا أخ حمزاوي» فالسمع والطاعة مطلوبان بل إجباريان سواء في نظام الحكم المطلق والفردي الذي يضع قناعا ديمقراطيا، أو في حكم الإسلام السياسي الأشد قسوة لأن قناعه ديني. يقدم «العزبي» ختاما جميلا لكتابه الممتع قائلا «لا تفهموني غلط، وتظنوا أني أقصد الزبالة ذات الرائحة العفنة التي تصدر أحيانا من مقالات تنشرها صحف معطرة.. بعضها يستحق الحرق أو الفرم ولكنني مع أهلي وعشيرتي ظالمين أو مظلومين، وكيف أنصرهم ظالمين؟.. بردهم عن الظلم أي عن الجهل والنفاق والفبركة!»