اختار "كناسة الصحف" عنوانا لكتابة العنوان يبدو تقليديا مع إن الكاتب ليس تقليدياً أو عادياً.. كل كتابة له مبهجة ورشيقة وخفيفة علي القلب. إن طالت وإن قصرت. المهم أن أثرها يبقي طويلاً. "كناسة الصحف" عنوان كتاب المبدع الكبير محمد العزبي الذي صدر في سلسلة كتاب "الجمهورية" سبقه إليه "عم الكل" يحيي حقي في "كناسة الدكان" والعزبي يعرف ذلك طبعا.. من يقرأ له يعرف أنه قارئ نهم ومطلع أريب يفرز الغث من السمين من نظرة واحدة. ولذلك يقول في مقاله الذي حمل عنوان الكتاب: "لا تفهموني غلط" وتظنوا أني أقصد الزبالة ذات الرائحة العفنة التي تصدر أحيانا من مقالات تنشرها صحف معطرة.. بعضها يستحق الحرق أو الفرم. ولكنني مع أهلي وعشيرتي ظالمين أو مظلومين وكيف أنصرهم ظالمين؟... بردهم عن الظلم.. أي عن الجهل والنفاق والفبركة. العنوان يقول العزبي أوحي به كتاب جميل لأديب ليس له مثيل "يحيي حقي" الذي قدم أعمالاً متميزة "صح النوم" وتراب الميري" و"أم العواجز" و"خليها علي الله" استهر منها اكثر ما تحول إلي فيلم سينمائي "البوسطجي" و"قنديل أم هاشم" غير أن لكتابه عن تاريخ حياته مذاقاً مختلفاً وقد سماه "كناسة الدكان" مستوحياً ما يتخلف عن يوم عمل طويل داخل الدكان. ودكاني هو الصحف التي أغرق في قراءتها والتفتيش بين سطورها. الكتاب مجموعة من المقالات سبق نشرها وتم جمعها بعناية تحت أربعة عناوين رئيسية "سنوات الحب والحبس" و"بعض ما عرفت.. ومن عرفت" "ليالي السهر والسفر والسمر" "ختامه مسك". وفي ظني أن جميع مقالات سبق نشرها وإعادة إصدارها معاً في كتاب تجربة محفوفة بالمخاطر خاصة لو ارتبط مقال منها بأمر أو مشكلة وقتية ينتهي المقال بانتهائها.. لكن الأمر مختلف مع كاتب في حجم محمد العزبي.. كل مقال له قطعة أدبية فريدة تقرأها فتستمتع لكنك لا تشبع ولا تصيبك التخمة.. لا يعرف العزبي "الرطرطة" في الكتابة.. ينتقل في المقال الواحد من موضوع إلي آخر وربما علي نحو مفاجئ. لكنه رغم ذلك انتقال سلس لا يؤدي إلي ربكة قدر ما يؤدي إلي "انتعاشة". كتابات محمد العزبي لا يبنيها صاحبها علي نموذج أو مثال سابق. كل كتابة له هي ابنة ذاتها. وإن اصطبغ الجميع ببصمة محمد العزبي التي تشير إلي كاتب ليس ككل الكتاب. وكتابة ليست ككل والكتابات. يبدأ محمد العزبي كتابته من حيث لا تتوقع أن يبدأ. وينهيها كذلك من حيث لا تتوقع أن ينهيها.. كتابة تتركك مندهشاَ ومعلقاً في فضائها.. سواء كانت عن سفراته خارج البلاد أو داخل سجونها.. عن ذكرياته المؤلمة التي لا مكان للشجن عند تذكرها بل الفرح والابتسام الكتابات جميعها مفرحة ومشرقة وغير أسيانة ربما تعكس نفسية صاحبها التي تتحلي بهذه الصفات وأكثر.. الاشراق هو سيد الموقف والفرح بكل ما هو جميل عنوانه في الكتابة والحياة.. دائماً ما يفتش عن الاشياء الجميلة ويسعي لابرازها.. يلتقط كتاباً أو موقفاً أو مقالاً لغيره ويحتفي به.. وتلك هي شيمة الكبار دائماً. محمد العزبي في كل ما يكتب كاتب وإنسان من طراز خاص ونادر من القلائل جدا الذين لا تستطيع الا أن تحبهم وتتعلق بكتاباتهم وتتعلم منها.. لا أقول إنه من "كتاب الزمن الجميل" لأن كل زمن جميل بما فيه ومن فيه.. وزمننا جميل فعلا ومحفوظ لوجود محمد العزبي وأمثاله الذين يعدون علي أصابع اليد الواحدة.