في فبراير 2009 أعلن معهد جالوب الامريكي نتيجة استطلاعه العالمي حول علاقة الشعوب بالدين.. وأثبتت هذه النتيجة ان المصريين هم أكثر الشعوب تدينا.. حيث أكد 100% من المصريين المشاركين في الاستطلاع- مسلمين ومسيحيين - أن الدين جزء مهم من حياتهم اليومية. أجري الاستطلاع علي عينات من 143 بلدا واقليما حول العالم.. وحددت العينة بألف شخص فوق 18 عاما.. وكان السؤال الموجه للجميع علي اختلاف أديانهم: هل يمثل الدين جزءا مهما من حياتك اليومية أم لا؟.. واستمر الاستطلاع علي مدي ثلاث سنوات:2006- 2007- .2008 حين قرأت الخبر انفرجت اساريري.. فها نحن نتفوق علي العالم كله في شيء.. وشيء مهم.. لكن القائمين علي الاستطلاع أفسدوا فرحتي.. حيث ذكروا في تحليلاتهم أن القاسم المشترك بين المجتمعات الاكثر تدينا هو انخفاض المستوي الاقتصادي.. فالنتائج تشير إلي ان ثماني دول من أصل 11 دولة الاكثر تدينا حول العالم هي الدول الفقيرة.. بينما الدول الاقل تدينا في القائمة هي دول غنية منها السويد واليابان والدنمارك وهونج كونج. ذكرني هذا الكلام بأقوال ترددت كثيرا في مصر خلال العقدين الماضيين حول دور الدين في المجتمع.. وقد ربطت بعض هذه الاقوال بين التدين والفقر من أحد وجهين: الاول أن المجتمعات الفقيرة هي التي تلجأ إلي الدين لتحصل منه علي نعيم الآخرة عوضا عن نعيم الدنيا الذي لم تفز به.. والثاني أن المجتمعات المتدينة هي الاكثر عرضة للفقر لانها تنشغل بالآخرة عن الدنيا وتستسلم للكسل العقلي والسفسطة الميتافيزيقية والاخلاقية وتترك العلم والعمل اللذين هما طريق النمو والثراء. لكن.. من حسن الحظ أن أمريكا ظهرت معنا في قائمة الدول تدينا.. حيث تبين من نتائج الاستطلاع تقارب مستوي التدين في العديد من ولاياتها مع مستوي التدين لدي بعض الشعوب العربية والاسلامية الفقيرة وهذا في حد ذاته دليل علي فك الارتباط المزعوم بين التدين والفقر.. ففي ولاية ميسيسيبي جنوب أمريكا بلغت نسبة من يعتبرون الدين جزءاً مهماً في حياتهم اليومية 85%.. وهي نسبة مقاربة للبنان 86% وإيران 83% .. بينما جاءت بنجلاديش في المرتبة الثانية بعد مصر ب99%.. واندونيسيا 98%.. والعراق 79%. واستنادا إلي هذه النقطة ذاتها أشار معهد جالوب إلي أن الاعتراف بهذه الحقيقة ينبغي أن يوقف الامريكيين عن الانزلاق إلي التعميم في الحكم علي الثقافات الاخري.. كأن يصفوا بعض الشعوب مثلا بأنهم أكثر عرضة للتعصب.. كما ينبغي أن تساعد هذه النتائج من هم خارج الولاياتالمتحدة علي تجنب الغلو في إصدار الاحكام علي الامريكيين يريد استطلاع جالوب بذلك ان يفك الارتباط هذه المرة بين التدين والعنصرية.. وأن يساهم في وقف الاتهامات المتبادلة بين الامريكيين والمجتمعات الاخري. الاسلامية مثلا. فيما يتعلق بالتعصب والاستعلاء الثقافي أو الحضاري أو الديني. وهكذا يقودنا الاستطلاع إلي الحقيقة رويدا رويدا.. فالدين في حد ذاته ليس مرتبطا بالفقر ولا بالتعصب ولا بالعنصرية.. ولا بالتطرف ولا بالارهاب.. ولكن فهم المجتمعات والجماعات المختلفة للدين ودوره هو الذي يقذف بها إلي هذه الوهاد فيما تظن هي أنها تتقرب إلي الله زلفي. القضية اذن هي: كيف نفهم الدين؟ وما هو الدور الذي يؤديه الدين في مجتمعنا؟.. فالدين يمكن أن يكون أداة للتنوير والتطور والبناء والتعمير.. ويمكن أن يكون- اذا أسيء فهمه- أداة للخمول والتخلف والتطرف والجمود الفكري وترويج الاساطير والخرافات والخزعبلات.. وقد نقل عن الامام علي كرم الله وجهه أن "القرآن حمال أوجه".. ونقل عن كارل ماركس أن "الدين أفيون الشعوب وصرخة المضطهدين". وهنا يجب ألا نخجل من الاعتراف بالتناقض الكبير القائم في حياتنا بين حقيقة الدين وواقع المصريين.. فربما يكون هذا الاعتراف هو التشخيص الصحيح لمرضنا.. وبالتالي هو الذي يقودنا إلي العلاج الصحيح كي تتغبر أحوالنا مع التدين من الفقر إلي الغني . ومن التخلف إلي التقدم. ومن اليأس إلي الرجاء. ولكي يكون للدين- الاسلامي والمسيحي- دور إيجابي وتقدمي في حياتنا يجب أن نخرج به من دائرة التركيز الدائم علي الغيبيات.. ونتحول إلي قضايا الواقع وما ينفع الناس.. قضايا التطور الديمقراطي والتعددية الحزبية والفكرية. وبناء الدولة المدنية الحديثة. وتدعيم الوحدة الوطنية والدستور العصري. واحترام القانون والمساواة وحقوق المرأة وحقوق الانسان وحقوق الاقليات. وتحقيق مجتمع الكفاية. واحترام قيمة العمل وتحصيل العلم. ونشر فكر التكافل والتعاون. واحترام الآخر المختلف دينياً وثقافياً وسياسياً. إننا إن فعلنا ذلك جمعنا الحسنيين: حفظنا علي وضعنا كأكثر الشعوب تديناً.. وأصبحنا- أيضاً- في قائمة أكثر الشعوب ثراءً وعلماً وتقدماً.. المهم أن تتوافر لدينا الإرادة الجادة.. وأن نبدأ من اليوم قبل الغد.