لم ألتق مباشرة علي المستوي الشخصي بالراحل العظيم البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.. ولكن كنت في لقاء دائم مع أفكاره وآرائه ومواقفه الإنسانية والوطنية والقومية. الفلاسفة في تاريخ البشرية قلة قليلة لأن الفيلسوف يهبه الله من الحكمة والرؤية الثاقبة ما لا يهبه للآخرين.. وقد كان فقيدنا فيلسوفا بمعني الكلمة.. ينطق اللفظ في معناه الصحيح ويصوغ الجملة بميزان المعرفة الدقيقة. ويبدي الرأي من خلفية ثقافية متعددة المشارب والمناهل ومن واقع اجتماعي يدرك أبعاده وملابساته فيصيب الهدف بدقة ويؤتي ثماره المرجوة. فيكون قولا فاصلا بين الحق والباطل. أحب مصر أرضا ووطنا وشعبا فكان رمزا من رموزها العظيمة في تاريخها الممتد لأحقاب طويلة. وسوف يظل قداسة البابا شنودة الثالث سراجا وهاجا يضيء بحكمته درب الوحدة الوطنية الذي يجعل هذا الشعب ينصهر في بوتقة واحدة يلفظ الخبث الذي يتخلف عن صقل المعدن الثمين لتتبلور في هذه الأمة صفات الأخوة والألفة والمحبة صافية نقية. مصر عرفت الشموخ في زعماء ومفكرين وفنانين ومبدعين وعلماء لا يمكن حصرهم. عرفت أحمد عرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومصطفي النحاس وجمال عبدالناصر وأنور السادات.. وفي الاقتصاد طلعت حرب. مصر أنجبت عبدالله النديم وعمر مكرم وطه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم ويحيي حقي ولويس عوض ونجيب محفوظ والشيخ مصطفي عبدالرازق وعبدالمجيد سليم ومحمد متولي الشعراوي ومحمود شلتوت وعبدالحليم محمود. مصر قدمت للفن والإبداع أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وسيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وغيرهم. مصر أهدت للإنسانية أحمد زويل ومصطفي السيد ومجدي يعقوب ومن قبلهم مصطفي مشرفة وسميرة موسي وكوكبة كبيرة من العلماء ينتشرون في كل انحاء العالم يساهمون بجهدهم وفكرهم في إسعاد البشرية. ليس غريبا علي مصر التي تفخر بكل هذه القمم أن تضيف اليهم قمة وطنية شامخة سيذكرها التاريخ بكل الإجلال والتقدير والاحترام. وسيضعها شعب مصر في المقام الرفيع الذي يليق بها هو قداسة البابا شنوده الثالث. لكل أجل كتاب.. وقد رحل البابا شنوده الثالث عن عالمنا كما رحل كل العظماء.. وكما سنرحل جميعا.. فهذه مشيئة الله وسنته في خلقه "كل نفس ذائقة الموت" و"كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام".. ولكن لأنه "البابا" فاننا لا نستطيع أن نمنع دمعة تترقرق من عيوننا وحزنا تفيض به قلوبنا وأسي تمتليء به نفوسنا. أحببتنا يا قداسة البابا فأحببناك.. وأبدا لن ننساك.. قدس الله روحك الطيبة.. وعوض مصر عنك خيرا في خلف يسير علي هداك.