أقامت وزارة المالية خلال الأسبوع الماضي مزاداً لبيع السيارات التي صادرتها الجمارك أيام وزير المالية الأسبق د.يوسف بطرس غالي. الهارب خارج البلاد.. استمر المزاد أربع ساعات. وشهد منافسة شديدة بين الباشوات الجدد والهوانم علي السيارات الأمريكية والألمانية الفارهة التي تجاوز سعر الواحدة منها حاجز النصف مليون جنيه بمئات الآلاف.. وفي الربع الساعة الأول فقط بلغت حصيلة البيع ثلاثة ملايين جنيه. بينما خرج التجار وأصحاب المعارض من المولد بلا حمص. ورغم أن السيارات ليست حديثة الصنع وترجع موديلاتها لسنوات سابقة. إلا أن الإقبال عليها كان كبيراً والمزايدة كانت شرسة.. وخرج بعض من شاركوا في المزاد ليقول للصحف إن الأسعار أعلي من السوق. وأن ما حدث هو عملية غسيل أموال علنية. قالت الصحف إن أكياس البلاستيك السوداء المليئة بالنقود كان يتجول بها أصحابها بين الصفوف استعداداً لدفعها كعربون وتأمين.. حتي إن أحدهم كان يحمل بين يديه 200 ألف دولار يريد تبديلها بالجنيه المصري. وأمام تكالب هذه الفئة الشرهة ممن يملكون المال بلا حدود.. ويستطيعون دفع الثمن مضاعفاً دون حرج أصيب بعض المواطنين الطموحين الذين كانوا يتطلعون لشراء سيارة من المزاد بإحباط شديد.. لأنهم اكتشفوا في لحظة الجد أنهم خارج المنافسة.. وأن الباشوات والهوانم قادرون علي شراء كل شيء.. كل شيء.. بصرف النظر عن الثمن الذي يدفعونه.. فالمال بلا حدود. الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الصحف وهي تنقل هذه الصورة يكمن في استنتاج غير صحيح يقول: إن ما حدث في مزاد الصفوة يكشف عن توافر السيولة بالسوق المصرية وأن البلد فيها فلوس.. وهو استنتاج ناقص أيضاً. يجب أن يستكمل بعبارات واضحة ومحددة. السوق المصرية لا تتوفر فيها السيولة إلا مع فئات معروفة.. كانت قريبة من النظام الساقط.. وتمتعت بحمايته.. وحصلت منه علي امتيازات هائلة. حين جمعت بين الثروة والسلطة.. وهذه الفئات تسعي الآن جاهدة لكي تتخلص من الثروات الطائلة التي يمكن أن تساءل عنها. فتتجه إلي أن تشتري العقارات والسيارات والأراضي. وبالطبع ليس من هؤلاء المشترين رجال الأعمال وأصحاب المصانع والقصور والإقطاعيات. وإنما وكلاؤهم وأقاربهم وأصهارهم.. وأثرياء الدرجة الثانية والثالثة. لقد نجح نظام حسني مبارك علي مدي ثلاثين عاماً في أن يقسم المجتمع المصري إلي قسمين كبيرين.. قسم الثراء الفاحش وقسم الفقر الفاحش.. بينما تآكلت الطبقة الوسطي التي هي صمام الأمان والاستقرار والمحافظة علي قيم المجتمع وتقاليده.. والذين ظهروا في مزاد الصفوة هم فلول الطبقة العليا.. أما بقايا الطبقة الوسطي والفقيرة فمازالوا يتنكبون الطريق.. بعضهم يذهب إلي الوقفات الاحتجاجية للمطالبة بحقه في حياة كريمة. وبعضهم يقف في طوابير الخبز. وطوابير أنبوبة البوتاجاز. وطوابير صرف المعاشات أمام مكاتب البريد. هل غيرت الثورة شيئاً في هؤلاء وهؤلاء؟! بالتأكيد لا.. فمازالت الشريحة التي تنتمي إلي الثراء الفاحش في المجتمع تفضل ركوب السيارات الفارهة وتزايد عليها بشراسة.. والشريحة التي تنتمي إلي الفقر الفاحش مازالت تبحث عن "توك توك".. وفي الوسط قلة قليلة حائرة لا تصل إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء. وما معني هذا؟! معناه وبكل صراحة غياب العدالة الاجتماعية ومبدأ تكافؤ الفرص بعد الثورة.. فلم يُتخذ أي إجراء حتي الآن للحد من الثراء الفاحش.. ولم يُتخذ أيضاً أي إجراء لمساندة الفقر الفاحش.. كل ما حدث ويحدث كلام في كلام.. ولا شيء يتغير. مازلنا نرفع شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية.. ومازالت الهتافات تطالب باسترداد حق الوطن والمواطنين الشرفاء ممن سرقوا ونهبوا.. وصادروا خيرات البلاد لصالحهم. اقترب عمر الثورة من اكتمال العام الأول. ولم نسترد مليماً من اللصوص الكبار أو الصغار.. وسوف تتجه الحكومة إلي الاقتراض من صندوق النقد الدولي لتغطية عجز الموازنة. لكنها لم تجرؤ علي مد يدها إلي قصور مارينا ومنتجعات طريق الإسكندرية الصحراوي وبورتو السخنة. وما شابهها! للشاعر العربي الكبير "المتنبي" بيت في غاية البلاغة يعبر عن حالنا.. يقول فيه: نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفني العناقيد والمعني أن حراس مصر قد غفلوا عن الثعالب واللصوص الذين يأكلون أقواتها.. وبالرغم من أن هذه الثعالب قد شبعت حتي امتلأت. فعناقيد الكروم المصرية لا تفني.. مازالت غنية بالخير وستبقي. وإذا كان حراسنا قبل الثورة قد غفلوا عن أقواتنا وخيراتنا.. وتركوها نهباً للثعالب.. فماذا يفعل حراسنا اليوم.. ولماذا هم غافلون؟!