أصدر الدكتور أسامة العبد رئيس جامعة الأزهر في أول أيام الدراسة هذا العام قراراً بمنع الأساتذة من التحدث وإلقاء المحاضرات باللهجة العامية.. من تثبت مخالفته لتلك التعليمات سيتم لفت نظره إلي عدم العودة إليها ثانية حتي لا يحال إلي التحقيق. الدافع وراء قرار رئيس الجامعة حسب ما أوردته الصحف أنه "من العيب علي الأزهر معقل العلوم العربية والإسلامية أن يشتكي فيه الطلاب الوافدون بعدم فهمهم للغة الأستاذ لأنه يتحدث بالعامية المصرية.. ومن ناحية أخري وصف د. العبد القرار بأنه محاولة من الجامعة لحماية طلابها من العشوائية الثقافية التي تصدرها العولمة لنا. أرجو أن تلاحظ هنا أن المقصود بالقرار هم أساتذة الجامعة الذين يجب أن يتحدثوا بلغة عربية صحيحة أمام طلابهم.. وأن الأمر مقصور علي المحاضرات وليس فرضا في كل وقت وكل مكان.. وأرجو أن تتذكر أن القرار ليس بدعة شاذة فأقسام اللغات الإنجليزية في كليات التجارة والحقوق والآداب والاقتصاد والعلوم السياسية تفرض علي الأساتذة أن يلقوا محاضراتهم باللغة الإنجليزية ويتحدثوا إلي الطلاب ويناقشوهم بالإنجليزية دون سواها. لكن يبدو أن قرار رئيس جامعة الأزهر لم يأت علي هوي صحيفة "أخبار الأدب".. أكرر "أخبار الأدب".. فنشرت في عددها الصادر يوم عيد الأضحي- الأحد 6 نوفمبر 2011- تحقيقا علي الصفحة العاشرة يهاجم القرار ويسخر منه ويدافع عن العامية ويقرظها. عنوان التحقيق يقول: "هل الفرمانات تحمل حلولاً"؟!..العامية ممنوعة في الأزهر بأمر الرئيس.. ويبدأ بطرح الأسئلة التالية: هل قرار منع العامية عملي؟!.. وهل يستطيع كل الأساتذة والطلاب التحدث بالفصحي؟! .. وإن استطاعوا التحدث بالمفردات الفصيحة فهل سيتمكنون من ضبط الإعراب؟!.. وهل يضمن هذا القرار حل المشكلة المفترضة بين الفصحي والعامية؟!.. وهل التحدث بالعامية هو عشوائية ثقافية سببها العولمة؟! تحدث في التحقيق الصحفي الدكتور عبدالغفار هلال العميد الأسبق لكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر والدكتور عبدالحكيم راضي الأستاذ بقسم اللغة العربية بجامعة القاهرة فأثني كل منهما علي قرار رئيس جامعة الأزهر حتي يتعلم الطلاب من اساتذتهم الحديث باللغة العربية السهلة التي يفهمها الجميع.. وليس اللغة المتقعرة.. وذلك لكي نحافظ علي لغة القرآن الكريم وعلي أصالتنا وهويتنا. وكانت الأسئلة التي طرحتها "أخبار الأدب" علي د. هلال ود. راضي كالآتي: هل العربية التي نستعملها الآن هي لغة القرآن؟!.. هل يستطيع أحد عملياً أن يتحدث بالفصحي؟!.. لماذا لا يتم وضع قواعد للعامية للخلاص من هذه الثنائية؟!.. ولماذا لا يحدث مع اللغة العربية ما سبق وحدث مع اللغة اللاتينية التي أصبحت الآن مجموعة لغات إيطالية وفرنسية واسبانية وهكذا؟!.. هل المجتمع انفصل عن لغته أم أن اللغة هي التي انفصلت؟!. ولأن إجابات د. هلال ود. راضي لم تأت علي هوي الأسئلة فقد علق المحرر ساخراً: "تبدو الإجابات حتي الآن تؤدي إلي نفس الحائط الكبير.. الهوية التي ستسقط.. والإسلام والقرآن الذي سيضيع.. ثم ذهب بأسئلته إلي المترجم خليل كلفت الذي أجاب بأن قرار رئيس جامعة الأزهر غير عملي.. وأية فرمانات تأتي من مستوي فوقي مرفوضة.. وأنه- شخصيا- يتحدي أن يتحدث أي أحد بالعربية دون أن يخطئ في الإعراب.. والفصاحة هي الوضوح والإبانة وبهذا المعني فيما نسميه الفصحي والعامية كلاهما فصيح. أما الشاعر والباحث اللغوي مؤمن المحمدي فقد تساءل: ما هي اللغة العربية التي يريد الأزهر الحفاظ عليها؟! هي يوجد حقا ما يسمي باللغة العربية أو لغة القرآن؟!.. وختاما يري المحمدي ان الطريقة الوحيدة لمواجهة الواقع اللغوي المعقد للعالم العربي هو قبوله أولاً.. ولذلك فإن التقعيد للعاميات والاعتراف بها لغة هو أولي خطوات الإصلاح". ويبدو لي أن هذه الخاتمة هي رسالة التحقيق.. فاللغة العربية متخيلة ولا وجود لها حقا.. ولابد من الاعتراف باللهجة العامية ووضع قواعد لها حتي نتخلص من الازدواجية اللغوية.. هذه هي القضية التي تدافع عنها "أخبار الأدب" في تحقيقها المكتوب باللغة العربية والمنضبط بقواعد هذه اللغة وأنساقها.. وهي قضية غريبة ليس فقط لأنها تصادم الحقائق الراسخة وإنما أيضا لأنها صادرة من صحيفة تحمل رسالة الأدب. العالم كله يدافع عن لغاته دفاعه عن وجوده وهويته.. والشعوب تحارب من أجل الحفاظ علي لغتها وخصوصيتها الثقافية.. "الأكراد مثلا".. واليهود فعلوا المستحيل لإحياء العبرية بعد اندثارها لكي يصنعوا لأنفسهم هوية وقومية ودولة.. وفرنسا تدفع مليارات اليورو من أجل الحفاظ علي الفرانكفونية.. وحتي الدول الصاعدة كالصين واليابان وكوريا تدفع أموالا طائلة لفتح أقسام بجامعات العالم لتدريس لغاتها.. بينما نحن نهزأ بلغتنا ونهزأ بمن يربط بينها وبين الهوية والانتماء. إن هزيمة أية أمة هي في الأصل هزيمة الثقافة.. وهزيمة الثقافة تبدأ بإضعاف اللغة وضعضعتها وهجرها.. ومن ثم فقدان الروح القومية وضياع الهوية.. فهل هذا هو المستقبل الذي نتطلع إليه؟!