فتح باب التقدم لاختبارات الدبلومات والمعاهد الفنية لدخول كلية الحقوق والرابط الرسمي    نادية مصطفى لفيتو: احنا مش متطرفين ومصطفى كامل بيخاف على البلد (فيديو)    «زي النهارده» فى ‌‌30‌‌ يوليو ‌‌2011.. وفاة أول وزيرة مصرية    رغم إعلان حل الأزمة، استمرار انقطاع الكهرباء عن بعض مدن الجيزة لليوم الخامس على التوالي    ترامب يحذر من تسونامي في هاواي وألاسكا ويدعو الأمريكيين إلى الحيطة    وزير الخارجية يلتقي السيناتور ليندسى جراهام بمجلس الشيوخ الأمريكي    الاتحاد الإفريقي يصدم "الدعم السريع" بعد تشكيل حكومة موازية بالسودان ويوجه رسالة للمجتمع الدولي    مواعيد مباريات اليوم الأربعاء والقنوات الناقلة، أبرزها ليفربول ضد يوكوهاما    ثروت سويلم: لن يتكرر إلغاء الهبوط في الدوري المصري.. وخصم 6 نقاط فوري للمنسحبين    انهيار جزئي لعقار مكون من 7 طوابق في الدقي    من "ترند" الألبومات إلى "ترند" التكت، أسعار تذاكر حفل عمرو دياب بالعلمين مقارنة بتامر حسني    طريقة عمل الأرز باللبن، تحلية سريعة التحضير ولذيذة    البنك العربى الإفريقى يقود إصدار سندات توريق ب 4.7 مليار جنيه ل«تساهيل»    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    عبداللطيف حجازي يكتب: الرهان المزدوج.. اتجاهات أردوغان لهندسة المشهد التركي عبر الأكراد والمعارضة    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    السيد أمين شلبي يقدم «كبسولة فكرية» في الأدب والسياسة    ليلى علوي تسترجع ذكريات «حب البنات» بصور من الكواليس: «كل الحب»    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين الحكومي والخاص    ترفع الرغبة الجنسية وتعزز المناعة.. 8 أطعمة ترفع هرمون الذكورة بشكل طبيعي    لا تتبع الوزارة.. البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب منصة جنوب شرق الحمد    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    4 أرغفة ب دينار.. تسعيرة الخبز الجديدة تغضب أصحاب المخابز في ليبيا    تنسيق الثانوية 2025.. ماذا تعرف عن دراسة "الأوتوترونكس" بجامعة حلوان التكنولوجية؟    تنسيق الجامعات 2025| كل ما تريد معرفته عن بكالوريوس إدارة وتشغيل الفنادق "ماريوت"    إبراهيم ربيع: «مرتزقة الإخوان» يفبركون الفيديوهات لنشر الفوضى    وفاة طالب أثناء أداء امتحانات الدور الثاني بكلية التجارة بجامعة الفيوم    القانون يحدد شروط لوضع الإعلانات.. تعرف عليها    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    إخماد حريق في محول كهرباء في «أبو النمرس» بالجيزة    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    أسامة نبيه يضم 33 لاعبا فى معسكر منتخب الشباب تحت 20 سنة    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    أحمد فؤاد سليم: عشت مواجهة الخطر في الاستنزاف وأكتوبر.. وفخور بتجربتي ب "المستقبل المشرق"    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    ناشط فلسطيني: دور مصر مشرف وإسرائيل تتحمل انتشار المجاعة في غزة.. فيديو    رئيس مدينة الحسنة يعقد اجتماعا تنسيقيا تمهيدا للاستعداد لانتخابات الشيوخ 2025    رسميًا.. جدول صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 بعد تصريحات وزارة المالية (تفاصيل)    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    «الجو هيقلب» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم : أمطار وانخفاض «مفاجئ»    جدول امتحانات الثانوية العامة دور ثاني 2025 (اعرف التفاصيل)    ترامب: الهند ستواجه تعريفة جمركية تتراوح بين 20% و25% على الأرجح    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    محمد السادس: المغرب مستعد لحوار صريح ومسؤول مع الجزائر    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    معلقة داخل الشقة.. جثة لمسن مشنوق تثير الذعر بين الجيران ببورسعيد    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل كانت "القنديل" بيضة الديك في أعماله؟
نشر في المساء يوم 30 - 12 - 2017

تذهب بعض الآراء النقدية إلي أن يحيي حقي "7 يناير 1905 9 ديسمبر 1992" أديب بلا جيل محدد. بمعني أنه من الصعب وضعه إلي جانب توفيق الحكيم مثلاً الذي استطاع بموهبة متفردة أن يصبح ثالث الرواد العظام: طه حسين. العقاد. الحكيم.. فضلاً عن بقية جيل الرواد: المازني وشكري والزيات وغيرهم. ومن الصعب كذلك نسبته إلي ما يسمي جيل الوسط. أو جيل لجنة النشر للجامعيين: نجيب محفوظ والسحار والبدوي وعبدالحليم عبدالله وغراب وصلاح ذهني وباكثير وأحمد زكي مخلوف وغيرهم.
وبصرف النظر عن صواب ذلك الرأي أو خطئه. فمن المؤكد أن يحيي حقي قام في حياتنا الثقافية. بالدور نفسه الذي قام به جيل الرواد. بالإضافة إلي مبدعي المدرسة الحديثة. فهو لم يعرف التخصص. كما فعل نجيب محفوظ والأجيال التالية. لكنه اجتهد في معظم المجالات الأدبية. وزاد عليها. وأذكر قول أحمد عباس صالح. إن يحيي حقي أعد نفسه إعداداً شاقاً وصبوراً. لكي يكتب بين كتاب جيله من الكبار كتابة متميزة وليؤثر تأثيراً عميقاً في قرائه. وفي الأجيال التالية له. في التذوق. وفي التعبير. وفي التأمل الهاديء العميق.
إن معظم أدبائنا تسبقهم صفة الابداع تفوقوا فيه. وقدموا أبرز معطياتهم. ثمة الشاعر والروائي وكاتب القصة القصيرة والمسرحية والناقد إلخ. حتي نجيب محفوظ. قد تسبق اسمه عبارة "الروائي الكبير" أما يحيي حقي فهو قد أجاد التفوق في كل معطياته. فاسمه يأتي غير مسبوق بصفة. إنه يحيي حقي بلا صفة تسبقه. أو تتبعه.
المدرسة الحديثة
أول قصة قصيرة نشرت ليحيي حقي في عام 1925. فهو يعتبر من جيل الرواد في كتابة القصة القصيرة. ومع أنه لم يلحق إنشاء المدرسة الحديثة "1917" والتي كانت تضم أحمد خيري سعيد وإبراهيم المصري وحسين فوزي ومحمود طاهر لاشين ومحمود عزي ومحمد تيمور وغيرهم. وجعلت شعاراً لها: تحيا الأصالة.. تحيا التجديد والإصلاح.. فإن حقي ما لبث أن أصبح أبرز أساتذة المدرسة. وقد كتب عن معظم أفرادها. وحين مات الناظر أحمد خيري سعيد نعاه بمقال مؤثر. اعتبره من أعظم النثريات في أدبنا المعاصر.
كتب يحيي حقي القصة القصيرة. وأبدع فيها. أحدثت مجموعته "قنديل أم هاشم" تأثيراً إيجابياً في مسار القصة العربية لا تخطئه العين. فهي تسبق عصرها. سواء في اختيار اللحظة القصصية. أو في اللغة. أو في التكنيك وأزعم أن الكثير من أدباء الأجيال التالية يدينون ببداياتهم المثمرة إلي قراءة أعمال حقي. والتي تضمها خمس مجموعات قصصية.
يحيي حقي بلا جدال في مقدمة بناة القصة القصيرة العربية المعاصرة. بل إن بعض النقاد يعتبره "أعظم من كتب القصة القصيرة في الوطن العربي". القصة القصيرة هي الفن الذي حقق فيه التفوق إطلاقاً. حتي "قنديل أم هاشم" أشهر أعماله يسهل تسميتها قصة قصيرة مطولة. مثلما أنه من الصعب تصنيفها كرواية. بل إن "صح النوم" روايته القصيرة أقرب إلي مجموعة لوحات. يربط بينها الزمان والمكان. في حوار مع فاروق شوشة أكد حقي أن الثروة في أي أدب قومي تستند إلي القصص الطويلة "هل يعني الرواية؟" قبل القصيرة. مع ذلك. فإنه يقول: "لقد عالجت معظم فنون القول من قصة قصيرة ورواية ونقد ودراسة أدبية ومقال أدبي. وترجمت عدداً من القصص والمسرحيات.. ولكن تظل القصة القصيرة هي هواي الأول. لأن الحديث فيها عندي يقوم علي تجارب ذاتية. أو مشاهدة مباشرة. وعنصر الخيال فيها قليل جداً. دوره يكاد يكون مقصوراً علي ربط الأحداث. ولا يتسرب إلي اللب أبداً".
القصة القصيرة عند يحيي حقي تعني "التحديد والحتمية". أما الرواية. فإنها تعتمد والتعبير للفنان علي الصدفة والتجريد المصطنع. إنه يؤمن بأن كل تطور أدبي هو في المقام الأول تطور أسلوب. القصة شيء مختل فعن أسلوب المقامة والوعظ والإرشاد والخطابة والزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات والمقدمات الطويلة والخواتم التي ترجو مصمصة الشفاه!
والقصة القصيرة التي علق بها يحيي حقي. هي التي تضيف جديداً. بأن تكشف عن بعض جوانب النفس الإنسانية. وهي التي تنقل قارئها من الصورة الجزئية المباشرة إلي المعني الكلي وراءها وينفذ القاريء من خلالها إلي روح الكاتب نفسه. فضلاً عن ارتباطها بهموم المجتمع. وحرصها في الوقت نفسه علي إتقان الصنعة. بحيث يزيد إيحاؤها. ويعلو علي جماع ألفاظها.
ومع أن يحيي حقي يلح في ألا يستمع القاريء إلي صرير قلم الكاتب. فإن شخصية حقي تبين عن نفسها في معظم ما يكتب يتخيله القاريء حتي ولو لم يكن علي معرفة به. ولا شاهدة من قبل. يتحدث ولا يكتب. يحكي ويسرد. يتوقف ليبدي ملاحظة. أو ملاحظات. تزول كل الحواجز مرئية وغير مرئية بين الفنان والقاريء فالقاريء يتنبه منذ اللحظة الأولي إلي القصة. وإلي كاتبها. وإلي تعاطف الفنان مع الشخصية التي يتناولها.
الفنان يعني بالشخصية من عنايته بالحدث. ما يشغله هو ملامح الشخصية مشكلاتها. نوازعها النفسية. تأثرها بالبيئة من حولها. وقد صرح يوماً أن تأملاته في الطريق هي سر قوته.
وقد أخذ حقي موقف الراوي في معظم قصصه. تماماً مثلما في السير الشعبية والملاحم.. فروايته واضحة. رائقة الصوت. تتعاطف مع الشخصيات التي تحكي قصتها بالقدر الذي يثير تعاطف المتلقي. وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي. فقد "نجح يحيي حقي في أن ينقل لنا في قنديل أم هاشم سيرة للبطل المعاصر مستمدة من السير الشعبية. وكان بذلك رائداً لكل القصاصين المعاصرين. الذين يحاولون أن يعودوا بالفن القصصي إلي جذوره الشعبية الأولي".
والحق أن تلك الريادة لم تكن مقصورة علي "القنديل" لكنها تبين عن نفسها بصورة لافتة في معظم أعماله القصصية وجميعها عدا "صح النوم" تنتسب إلي القصة القصيرة.
معاناة يحيي حقي تبدأ بانتهاء كتابته الأولي للقصة. إنه يعود إلي العمل يقرأه بوعي الناقد المثقف. يحذف ويضيف ويعدل. حتي يطمئن إلي القصة فيدفع بها إلي النشر. وكانت تلك المعاناة هي الباعث الوحيد وليس الرئيس لتوقف يحيي حقي عن كتابة القصة.. فاللفظة يجب أن تعبر عن الشخصية. أو الموقف. التعبير علي القد. فلا حشو ولا ملامسة ولا ثرثرة. وكما يقول يحيي حقي. فإن حبه للتجديد والحتمية يبلغ حد الهوس: مزاجي يمقت أشد المقت أهون إطناب أو زيادة أو ثرثرة. يمقت المعني الغامض واللفظ المائع. فليس لمعني واضح إلا لفظ واحد محدد. لا يقوم غيره مكانه. وهذا التحديد يطاق في القصة القصيرة. ولكن يبعث علي الاختناق في الرواية الطويلة. وفي تقدير فتحي رضوان. أن الألفاظ عند يحيي حقي هي نقطة البداية. لكنها أيضاً محطة النهاية.
ورأيي أن "قنديل أم هاشم" ليست أهم أعمال يحيي حقي. بل إنه من الصعب كما قلت نسبتها إلي الرواية. حتي لو تجاوزنا عن معظم خصائص الفن الروائي. القيمة الأهم للقنديل في نظرة الفنان المحبة والمشفقة والواعية للطبقات الأدني. لهؤلاء الذين يبدون كهوامش في المجتمع المصري. وإن كانوا في الحقيقة هم قوام هذا المجتمع. هم غالبيته وقوته الفاعلة. أخلص حقي للقصة والرواية القصيرة. وأخلص كذلك بقدرة لافتة في قراءة إبداعات شعر الفصحي والعامية والمسرح والسينما والفن التشكيلي وموسيقي التخت والموسيقي الغربية. من خلال ثقافة موسوعية. متعمقة. محورها المعشوقة مصر.
بيضة الديك
ظلت "قنديل أم هاشم" في حياة يحيي حقي كما قال هو نفسه أشبه ببيضة الديك.
سُمي صاحب القنديل. واكتفت معظم الكتابات النقدية بتناول تلك القصة المطولة. وإن جاورت قصصاً أخري في كتاب صغير الحجم. ومع أنه يعد من أغزر أدبائنا إنتاجاً دليلنا أعماله الكاملة فإن "القنديل" هي الواجهة الوحيدة لتاريخه الأدبي "الناس لا يذكرون لي إلا قنديل أم هاشم. وكأني لم أكتب غيرها".
من حق يحيي حقي أن يرفض حصار إبداعه في قنديل أم هاشم. ثمة ما يضيف إليها في البوسطجي وصح النوم وقزازة ريحة وأم العواجز وغيرها من الأعمال التي تشكل العالم السردي لحقي. ثمة كذلك روايته "صح النوم" وهي عمل متفوق برغم أنها لم تحصل علي ما تساويه من عناية نقدية. فقد صدرت الطبعة الأولي بكميات قليلة. وفي ورق رخيص. وغلاف سييء. لأن الفنان نشرها علي نفقته. ولعلي أذكر هنا قول الناقد الصديق فاروق عبدالقادر عن الرواية. وأنه "جوهر صقلية. قطعة فنية رائقة التعبير. رائعة اللفظ والعبارة والصورة. استجمع فيها يحيي حقي كل قدراته وولعه بالأناقة والدقة. فجاءت شهادة لا يمكن نقضها علي عظمته ككاتب متفرد. وعلي صدق كل ما نادي به قبل كتابتها وبعدها. من حرارة التخلص من السجع اللفظي والترهل الفكري علي السواء. إن كل شخصية فيها تصلح مادة رواية كاملة عند هواة الثرثرة والإطناب".
خليها علي الله
للمكان أهمية بالغة في قصص يحيي حقي يقول: "الإنسان مائة في المائة هو البطل في قصصي.. ولكن بي غرام بوصف الأماكن تكملة للوحة التي اهتم بتقديمها للقاريء. كأنها لوحة مرسومة بالألوان".
ويطرح السؤال نفسه: لماذا كانت البيئة المصرية وحدها هي مبعث الإلهام الفني ليحيي حقي. برغم أصله التركي. وبرغم إقامته الطويلة خارج مصر. فضلاً عن ثقافته الفرنسية؟
لقد كانت السنتان 1927 و1928 مهمتين جداً في حياة يحيي حقي. وهما السنتان اللتان اشتغل فيهما معاوناً للإدارة في منفلوط. كان ذلك بداية اتصاله المباشر بالفلاح المصري البسيط. وبالطبيعة المصرية: "كنت قبل ذلك لا أفرق بين القمح والشعير. ولا أعرف عن الريف سوي منظر الحقول. ولعلك تلحظ في القصص التي كتبتها في هذا العهد. مقدار التحامي بالنبات والحيوان: حقل القطن. الجاموس المربوط علي البرسيم". فضلاً عن اتصال الفنان المباشر بالفلاحين. ويقول حقي: أوائل قصصي كتبتها في صحيفة "الفجر" ومن بينها قصة كتبتها متأثراً بإدجار ألن بو. وأخري عن الحيوان اسمها "فلة شمس لولو". أما أول قصة نشرتها فكانت في "السياسة" وعنوانها "قهوة ديمتري". وهي قهوة حقيقية موجودة في مدينة المحمودية. وقد أعطتني هذه القصة درساً انتفعت به طوال حياتي. فقد سجلت فيها الواقع كما هو. ووصفت العمدة بطربوشه الماثل كما هو في الحقيقة. مجرد وصف بريء لا أقصد به شيئاً. فإذا بالعمدة يغضب غضباً شديداً. ويظنني أهزأ به. فتجنبت ذلك فيما بعد. وفهمت أن الأدب الواقعي ليس هو التصدير الفعلي. وأصبحت الشخصيات التي أرسمها ليست منقولة من فرد. بل من مجموعة من الأفراد.. عشت هناك تجربة خصبة عميقة. وعرفت أول حب في حياتي. وقد سجلت هذه المرحلة علي مستويين: المستوي الوصفي في "خليها علي الله". وقد كتبتها بعد مرور ثلاثين سنة علي التجربة. دون أن تكون لها مخطوطات أو مذكرات. وجعلت محورها تأمل أسباب تلك الهوة التي تفصل بين الحكومة والفلاحين في ذلك العهد. وقد دهشت أشد الدهشة حين وجدتني وأنا أكتب هذا الكتاب بعد ثلاثين سنة. لا أزال أعيش بكل وجداني في منفلوط سنة 1927. وسنة 1928. أما التصوير الثاني. فهو التصوير القصصي في مجموعة "دماء وطين" وهي صعيديات تدور في منفلوط. ولها بقية في مجموعة "أم العواجز" كقصة "قزازة ريحة" و"حصير الجامع" وتأتي بعد ذلك المرحلة الثالثة من حياتي. وهي صغري إلي الخارج الذي انتهي بي إلي أوروبا سنة 1934. ماراً بالحجاز وتركيا. هذه مرحلة اتصالي بالحضارة الأوروبية. وبدء تتلمذي علي الموسيقي والتصوير والمعارض والمتاحف والمسارح. ولكنني كنت دائماً أشعر أن في داخلي شيئاً صلباً لا يذوب بسهولة في تيار حضارة الغرب. وقد وضحت ذلك مرة في مقال قارنت فيه بين الأثر الذي تتركه روما في القادمين إليها من الشمال. والقادمين إليها من الجنوب. فأهل الشمال يبهرون بشمسها وحضارة عصر النهضة. أما أنا فقد وصلتها وعندي قدر أكبر من اللازم من الشمس. وعندي حضارة إن لم تفق. فهي تماثل حضارتها. وعندي دين هو نظام متكامل فيه الغناء.
الإيهام والحقيقة
الفن في تقدير يحيي حقي إيهام مطلبه الحقيقة. إنه لا ينقل عن الواقع. ولكن له واقعه الذاتي المستقل الذي يصبح في نهاية الأمر هو حقيقة الواقع الخارجي. وكان رأي حقي أن الفنان مطالب بأن يشاهد الوردة في البستان. لا الوردة في صورة. يخالف بذلك رأي المنفلوطي في أنه يفضل أن يقرأ وصفاً جميلاً لحديقة. علي أن يشهد الحديقة نفسها. وقد وازن صديقي ماهر شفيق فريد بين "خليها علي الله" و"يوميات نائب في الأرياف" فوجد أن كلا العملين يتحدث عن الهوة التي تفصل بين الحكومة والفلاحين. ولعل حقي كان أشد من الحكيم اندماجاً في البيئة التي وصفها. وأقل تباعداً. لأنه كان يكتب من الداخل. بينما كان الحكيم يكتب من فوق.
سأل عباس الأسواني يحيي حقي: ألم يؤثر عملك في السلك السياسي علي طبيعتك. وعلي حبك للشعب الذي نشأت في بيئاته الفقيرة؟..
أجاب: "أبداً.. طول حياتي الدبلوماسية لم أتأثر بأي مظهر من مظاهرها. إن الإحساس الشعبي هو الذي جعلني دائماً أحس بإنسانيتي. وإلا لما زدت عن كوني قرد لابس سموكنج. ثم لا تنس أنني عملت قبل التحاقي بالخارجية عامين كمعاون إدارة في منفلوط. خضت فيهما في أعماق الصعيد المصري. ولي قصص تصور هذه الحياة في دماء وطين وأم العواجز. أما خليها علي الله. فهو يصور حياة الشعب المصري. والهوة التي كانت قائمة بينه وبين الحكومة. في ذلك الوقت. وأنا أعتقد أنه يجب مقارنته يقصد الموازنة بيوميات نائب في الأرياف. وقد ظل حقي حريصاً حتي أقعده المرض علي ركوب القطار درجة ثالثة. والترام والأوتوبيس والمترو درجة ثانية. قبل أن تتوحد قيمة التذكرة. لا لبخل بالطبع وإنما لحرصه أن يتلقي بأبناء الطبقة الدنيا. يستمع إلي مناقشاتهم. ويشارك فيها. وإلي تعليقاتهم. وقفشاتهم ونكاتهم ومفردات اللغة وتركيباتها فيما يقولون. هذا هو في تقديري سر المصرية الخالصة التي تسري في لغته وأسلوبه. نت لا تجدها عند كثيرين. حتي عند أستاذنا نجيب محفوظ الذي يعتز بشوارعية حياته!. تسبق العصا خطواته المتمهلة داخل الأسواق. أو يجلس بمفرده. أو يجالس في قهوة التجارة موسيقيي وكومبارس شارع محمد علي. لا يعرفونه. يأخذ منهم. ويعطي. ويسأل. وينصت إلي إجاباتهم. ربما لمحته ينزل من تاكسي. أو يقف إلي جوار سائق المترو. وعربة المترو بها بعض الكراسي الفارغة. يهمه أن ينكش السائق. يحصل منه علي آراء وخبرات. يضيفها إلي نفسه الشفافة. التي لو أنك عصرتها علي حد تعبيره لجاءت خالصة المصرية!
يحيي حقي عاشق للمصرية. ناسها ومفرداتها وطبيعتها السهلة. والقاسية. يتحدث عن رحلة اتصاله بالحضارة الأوروبية.
أعجبني تعبيره: أنت لو عصرتني في عصَّارة قصب. فلن تخر مني إلا نقط مصرية تماماً. تحس في أحاديثه. وفي كتاباته. أنه يقطر شعبية. وأنه الأشد تعبيراً عن الفئات الأدني. برغم اشتغاله. معظم أعوام حياته العملية. في السلك الدبلوماسي. ثم زواجه من سيدة فرنسية.
يقول إنه لا يدري سبباً في التصاقه بالشعب. إنما يشعر شعوراً جازماً بأنه قطعة منه. وعندما يكتب عن سيدة مصرية من أعرق الأحياء شعبية. يحس إنه يفهمها. ويفهم لغتها واصطلاحاتها. ولا يجد عناء من أي نوع. وهو يتمثلها وكأنه واحدة من بنات الغورية أو باب البحر. ومع أن عمل يحيي حقي في منفلوط لم يزد علي عامين. فقد انعكست تلك الفترة القصيرة نسبياً علي الفنان. سواء من يحث إبداعه الفني. أو من حيث تعاطفه الإنساني مع الغلابة والمنكسرين. وتعرفه المباشر إلي ما كان مجهولاً عنه في الحياة المصرية. يقول: إني وإن كنت من أصل تركي إلا أني أحس بأنني شديد الاندماج بتربة مصر وأهلها. وفي بعض الأحيان يرجني هذا الشعور هزاً شديداً".
إذا كان لكل مبدع عظيم مشروعه الواضح الملامح. فإن مصر هي مشروع يحيي حقي. تاريخها وجغرافيتها وواقع ناسها. ومعاناتهم من قيود التخلف.
في إبداعات يحيي حقي رغم قلتها. نسبياً رائحة اليود علي شاطيء الأنفوشي. صفائح الحجارة في حواري الجمالية. مآذن القاهرة. عادات القاهرة. عادات وتقاليد ناس الصعيد. بساطة الحياة في الوجه البحري. السماء الصافية والنخيل والسواقي والجسور والكباري والأرابيسك والمشربيات والكتاتيب والقلل القناوي وعربات الكارو والباعة السريحة والطواقي والطرابيش واللبد والجلابيب والملاءات اللف والزحام والنكتة اللماحة والشجن والمأساة والصبر والأمل والثأر.. لحظات مصرية خالصة. عناق مذهل لتراث سبعة آلاف سنة من حياة شعبنا. السخرية المشفقة. والاتكال علي الله. والإيمان بحتمية القضاء والقدر. والعزف علي ربابة الوجدان.. جزء من اللحظات المصرية المتواصلة والممتدة.
أما الفنان نفسه. فإني أضيفه إلي المشاعل. الذين تبدو صورة مصر من خلال إبداعاتهم رائقة مشمسة: النديم والتونسي ومختار وسيد درويش والحكيم وجاذبية سري ولاشين ومحفوظ وعبدالصبور وإدريس وإنجي أفلاطون وغيرهم. متحمس دوماً. غالباً. وإن تواري التحمس والانفعال في نبرة هادئة. لا تعلو علي الهمس. أتصور نظرته التي يمتزج فيها الذكاء والطيبة. وكلماته المتساءلة. تتخللها تلك الكلمة "أفندم" المستمدة من أصل تركي. ذاب تماماً في الحياة المصرية: النبع حروف ثلاثة.م..ص..ر.
اكتشاف الذات
يقول يحيي حقي: أما الظاهرة الغريبة التي أحار كثيراً في تحليلها. فهي أنني وإن كنت من أصل تركي. إلا أنني أحس بأنني شديد الاندماج بتربة مصر وأهلها. وفي بعض الأحيان يرجني هذا الشعور هزاً عنيفاً. وقد ظل حقي يسير في درب اكتشاف الذات المصرية. يؤمن بانتمائها العربي. المتدين. ويؤمن في الوقت نفسه أنها أول من بني بالطوب والحجارة أطواداً تقهر الزمن في سقارة والجيزة. وأول من برع في الهندسة والفلك والطب. وأول من أخضع نهراً لنظام ري دقيق. وأول من عرف ديانة التوحيد. وأول بلد أشرق فيه معني الضمير والوازع الخلقي. ويعيب علي رواية توفيق الحكيم "عودة الروح" أن الذي يدافع عن الفلاح المصري فيها رجل فرنسي. وينتقد نجيب الريحاني الذي أساء إلي شخصية الفلاح المصري بدوره الشهير كشكش بيه "كان لنقده اللاذع لتوجهات الريحاني من أروع ما قرأت إدانة للفن حين يخضعه مبدعوه للسلطة أحببت الريحاني الفنان المبدع. ولازلت. ولكن حقي نبهني إلي ما لم أكن أعرفه من السيرة الشخصية والفنية للريحاني" ويحرص علي السير والفرجة والمعايشة في القاهرة القديمة. القاهرة الشعبية. ناسها وحرفييها وقهاويها وموالدها ومساجدها وشوارعها ومجاذيبها ومتصوفيها والملاءات اللف والجلابيب والشباشب والأقدام الحافية. حيث أطراف الجلابيب والوصف له تجز عليها الأسنان. والظهور مقوسة. والعرق يتصبب. وكل هبدة بحزقة.
ربما تبهت الأبعاد الاجتماعية في أفكاره وآرائه. ولعل مجرد إبداء التعاطف هو انعكاس مشاعره لحياة الملايين من الغلابة والمنكسرين الذين يضمر ويعلن لهم حباً صادقاً. لكنه يضع يديه بلا جدال علي جانب شتي من شخصية الإنسان المصري. ويؤمن بما تحمله من قيم ومثل وإيجابيات. واختارت ليومها وغدها. ذلك الشعار البسيط. المكثف الدلالات: خليها علي الله!..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.