في السابع من يناير 1905 ولد يحيي حقي. تذهب بعض الآراء النقدية إلي ان يحيي حقي أديب بلا جيل. بمعني أنه من الصعب وضعه إلي جانب توفيق الحكيم- مثلاً- الذي استطاع- بموهبة متفردة- ان يصبح ثالث الرواد العظام: طه حسين. العقاد. الحكيم. ومن الصعب كذلك وضعه إلي جانب جيل نجيب محفوظ. وهو الجيل الذي يضم اسماء: السحار والبدوي وعبدالحليم عبدالله وغراب وصلاح ذهني وباكثير وغيرهم. بصرف النظر عن صواب ذلك الرأي أو خطئه. فمن المؤكد ان يحيي حقي قام في حياتنا الثقافية بالدور نفسه الذي قام به جيل الرواد. فهو لم يعرف التخصص. كما فعل نجيب محفوظ والاجيال التالية. لكنه اجتهد في معظم المجالات الادبية. وزاد عليها. وأذكر قول أحمد عباس صالح إن يحيي حقي أعد نفسه إعداداً شاقاً وصبوراً. لكي يكتب بين كتاب جيله من الكبار كتابة متميزة. وليؤثر تأثيراً عميقاً في قرائه. وفي الاجيال التالية له. في التذوق. وفي التعبير. وفي التأمل الهادئ العميق. إن معظم أدبائنا تسبقهم صفة الابداع الذي تفوقوا فيه. وقدموا أبرز معطياتهم. ثمة الشاعر والروائي وكاتب القصة القصيرة والمسرحية والناقد إلخ. حتي نجيب محفوظ. قد تسبق اسمه عبارة "الروائي الكبير" . اما يحيي حقي. فهو قد أجاد التفوق في كل معطياته. اسمه يأتي غير مسبوق بصفة. إنه يحيي حقي بلا صفة تسبقه. أو تتبعه. المدرسة الحديثة أول قصة قصيرة نشرت ليحيي حقي في عام 1925 فهو يعتبر من جيل الرواد في كتابة القصة القصيرة. ومع انه لم يلحق انشاء المدرسة الحديثة "1917" والتي كانت تضم أحمد خيري سعيد وإبراهيم المصري وحسين فوزي ومحمود طاهر لاشين ومحمود عزي ومحمد تيمور وغيرهم. وجعلت شعاراً لها; تحيا الاصالة.. تحيا التجديد والاصلاح.. فإن حقي ما لبث ان اصبح أبرز اساتذة المدرسة. وقد كتب عن معظم أفرادها. وحين مات الناظر- أحمد خيري سعيد- نعاه بمقال مؤثر. اعتبره من أعظم النثريات في أدبنا المعاصر. كتب يحيي حقي القصة القصيرة وأبدع فيها. أحدثت مجموعته "قنديل أم هاشم" تأثيرا إيجابياً في مسار القصة العربية لا تخطئه العين. فهي تسبق عصرها سواء في اختيار اللحظة القصصية. أو في اللغة. أو في التقنية. وأزعم ان الكثير من أدباء الاجيال التالية يدينون ببداياتهم المثمرة إلي قراءة أعمال حقي. والتي تضمها خمس مجموعات قصصية. يحيي حقي- بلا جدال- في مقدمة بناة القصة القصيرة العربية المعاصرة. بل إن بعض النقاد يعتبره "أعظم من كتب القصة القصيرة في الوطن العربي" القصة القصيرة هي الفن الذي حقق فيه التفوق إطلاقاً. حتي "قنديل أم هاشم" - أشهر أعماله- يسهل تسميتها قصة قصيرة مطولة مثلما انه من الصعب تصنيفها كرواية بل إن "صح النوم" روايته القصيرة- أقرب إلي مجموعة قصص قصيرة مجموعة لوحات يربط بينها الزمان والمكان. القصة القصيرة عند يحيي حقي تعني "التحديد والحتمية" أما الرواية فإنها تعتمد- والتعبير للفنان- علي الصدفة والتجريد المصطنع إنه يؤمن بأن كل تطور أدبي هو- في المقام الاول- تطور أسلوب القصة شئ مختلف عن أسلوب المقامة والوعظ والارشاد والخطابة والزخارف والبهرجة اللفظية والمترادفات والمقدمات الطويلة والخواتم التي ترجو مصمصة الشفاه! والقصة القصيرة التي علق بها يحيي حقي. هي التي تضيف جديداً بأن تكشف عن بعض جوانب النفس الانسانية. وهي التي تنقل قارئها من الصورة الجزئية المباشرة إلي المعني الكلي وراءها. وينفذ- القارئ- من خلالها إلي روح الكاتب نفسه. فضلاً عن ارتباطها بهموم المجتمع. وحرصها- في الوقت نفسه- علي اتقان الصنعة- بحيث يزيد ايحاءها. ويعلو علي جماع ألفاظها. ومع ان يحيي حقي يلح في ألا يستمع القارئ إلي صرير قلم الكاتب. فإن شخصية حقي تبين عن نفسها في معظم ما يكتب يتخيله القارئ حتي ولو لم يكن علي معرفة به. ولا شاهده من قبل يتحدث ولايكتب. يحكي ويسرد يتوقف ليبدي ملاحظة أو ملاحظات تزول كل الحواجز مرئية وغير مرئية- بين الفنان والقارئ فالقارئ يتنبه- منذ اللحظة الاولي- إلي القصة وإلي كاتبها وإلي تعاطف الفنان مع الشخصية التي يتناولها. الفنان يعني بالشخصية أكثر من عنايته بالحدث ما يشغله هو ملامح الشخصية مشكلاتها نوازعها النفسية تأثرها بالبيئة من حولها وقد صرح- يوماً- ان تأملاته في الطريق هي سر قوته. وقد أخذ يحيي حقي موقف الراوي في معظم قصص. تماماً مثلما في السير الشعبية والملاحم.. فروايته واضحة رائقة الصوت تتعاطف مع الشخصيات التي تحكي قصتها بالقدر الذي يثير تعاطف المتلقي. وكما يقول الصديق الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي. فقد "نجح يحيي حقي في أن ينقل لنا في قنديل أم هاشم سيرة للبطل المعاصر مستمدة من السير الشعبية. وكان بذلك رائداً لكل القصاصين المعاصرين الذين يحاولون ان يعودوا بالفن القصصي إلي جذوره الشعبية الاولي". والحق أن تلك الريادة لم تكن مقصورة علي "القنديل" لكنها تبين عن نفسها- بصورة لافتة- في معظم أعماله القصصية وجميعها- عدا "صح النوم"- تنتسب إلي القصة القصيرة. معاناة يحيي حقي تبدأ بانتهاء كتابته الاولي للقصة. إنه يعود إلي العمل يقرأه بوعي الناقد المثقف يحذف ويضيف ويعدل حتي يطمئن إلي القصة فيدفع بها إلي النشر وكانت تلك المعاناة هي الباعث الوحيد لتوقف يحيي حقي عن كتابة القصة.. فاللفظة يجب ان تعبر عن الشخصية. أو الموقف. التعبير علي القد. فلا حشو ولا ملامسة ولا ثرثرة. وكما يقول يحيي حقي فإن حبه للتحديد والحتمية يبلغ حد الهوس: مزاجي يمقت أشد المقت أهون إطناب أو زيادة أو ثرثرة. يمقت المعني الغامض واللفظ المائع فليس لمعني واضح إلا لفظ واحد محدد لا يقوم غيره مكانه وهذا التحديد يطاق في القصة القصيرة ولكن يبعث علي الاختناق في الرواية الطويلة وفي تقدير فتحي رضوان ان الالفاظ عند يحيي حقي هي نقطة البداية لكنها أيضاً محطة النهاية. صح النوم ظلت "قنديل أم هاشم" في حياة يحيي حقي- كما قال هو نفسه- أشبه ببيضة الديك. سمي صاحب القنديل. واكتفت معظم الكتابات النقدية بتناول تلك القصة المطولة. وإن جاورت قصصاً أخري في كتاب صغير الحجم. ومع انه يعد من أغزر أدبائنا انتاجاً- دليلنا أعماله الكاملة- فإن "القنديل" هي الواجهة الوحيدة لتاريخه الادبي. قدم يحيي حقي في الرواية "صح النوم" . وهي عمل متفوق برغم انها لم تحصل علي ما تساويه من عناية نقدية فقد صدرت الطبعة الاولي بكميات قليلة. وفي ورق رخيص وغلاف سيئ. لأن الفنان نشرها علي نفقته ولعلي أذكر هنا قول الناقد الراحل فاروق عبدالقادر عن الرواية وأنها "جوهرة صقيلة. قطعة فنية رائقة التعبير. رائعة اللفظ والعبارة والصورة. استجمع فيها يحيي حقي كل قدراته وولعه بالاناقة. والدقة فجاءت شهادة لا يمكن نقضها علي عظمته ككاتب متفرد. وعلي صدق كل ما نادي به قبل كتابتها وبعدها من حرارة التخلص من السجع اللفظي والترهل الفكري علي السواء. إن كل شخصية فيها تصلح مادة رواية كاملة عند هواة الثرثرة والاطناب". وإذا كانت "القنديل" تأثراً بالغ الدلالة من الفنان بالحياة في السيدة زينب. الحي الذي ولد فيه الكاتب. وأمضي صباه وشبابه الباكر. فإن الحي القديم يبين عن نفسه في الكثير من قصص يحيي حقي. سواء جرت الاحداث في الميدان الفسيح. وما يحيط به. ويتفرع عنه. من شوارع وأزقة ودكاكين وبيوت أو غابت عن ذلك كله إلي حي شعبي آخر. يتحدث عن تأثير النشأة في أعماله القصصية. يقول: "رغم اننا غادرنا حي السيدة وأنا لا أزال طفلاً صغيراً فهيهات أن انسي تأثيره علي حياتي وتكويني النفسي والفني. فمازلت إلي اليوم أعيش مع الست ما شاء الله بائعة الطعمية. والاوسطي حسن حلاق الحي. وبائع الدقة. ومع جموع الشحاذين والدراويش الملتفين حول مقام الست للمكان أهمية بالغة في قصص يحيي حقي. يقول: "الانسان مائة في المائة هو البطل في قصصي.. ولكن بي غرام بوصف الاماكن تكملة للوحة التي أهتم بتقديمها للقارئ. كأنها لوحة مرسومة بالالوان". الصعيد بيئة اجتماعية أخري. أجاد الفنان تصويرها في أعماله. وبالذات مجموعته "دماء وطين" يصف الليل في الصعيد حيث أقام لفترة. عبر عنها في كتابه الرائع "خليها علي الله" بأنه كظلمة العمي "تلفح به الكون مرغماً هبط علي الفضاء حملاً ثقيلاً أحاط بالارض كالقيد غطي الحقول كالكفن. ولف القري كالضماد. وانحدر- ولا حد لاتساعه- إلي الشقوق فاحتواها. ثم تلفت يبحث عن مداخل النفوس التي يعلم انها تستقبله وتتشربه. فاحتلها يتمطي فيها". وفي قصص يحيي حقي محاولة للتعبير عن فلسفة حياة. أو في الاقل مواقف أو ججهات نظر تبين عن نفسها في مجموع تلك الاعمال وفي مقدمة تلك "الافكار" إعلاء شأن الارادة الانسانية. فهي الدعامة التي تستند إليها كل الفضائل. شخصيات مسالمة لكنها ضعيفة الارادة فتكون النتيجة. والتعبير للفنان. أنها تجزر! خليها علي الله إذا كان أدب السيرة الذاتية قد وجد ملامحه في العديد من كتب جيل الرواد والاجيال التالية: طه حسين في "الايام " والحكيم في "سجن العمر" والعقاد في "أنا" وسلامة موسي في "تربية سلامة موسي" وزكي نجيب محمود في "قصة نفس" وهيكل في "مذكرات في السياسة المصرية" وغيرهم فإن "خليها علي الله" ليحيي حقي تعد من أصدق كتب السيرة الذاتية وأشدها تعبيراً عن التطور النفسي والفني للفنان. فضلاً عن تصويرها الذكي للبيئات المختلفة التي عاش فيها الفنان. سواء في سني الطفولة بدرب الميضة "يصف يوسف السباعي حارة الميضة. بأنها لاتعدو المائة متر طولاً. والعشرة عرضاً. لا محل هناك لساكن ينزل بأرضها ومع ذلك فهي عامرة بالسكان غنية بالاهل" أو في كلية الحقوق ثم عمله كمعاون إدارة في أبوحمص بالوجه البحري وفي منفلوط في وسط الصعيد وقد أضاف يحيي حقي- فيما بعد- إلي "خليها علي الله" فصولاً أخري من سيرته الذاتية لعل اشهرها مقاله المطول "أشجان عضو منتسب". وعلي الرغم من قلة ما قدمه يحيي حقي في أدب الرحلات فإنه خالف الكتابات المألوفة لم يقصر علي سرد المشاهدة. وإنما جاوز ذلك إلي ابداء الملاحظات والتحليل والبحث عن نحن في الآخرين: سكان لامفر من ان ينتهي مطاف الرحلة. ومطاف هذه الفصول. إلي إثارة اسئلة تراود كل من سافر إلي أوروبا. وشاهد- عن قرب- أهلها قمة الجنس الابيض إن كان في قلب هذا المسافر ذرة من حب الوطن والانفة له. والارق له أي شيء هي حضارته؟ علي أي شئ أسسها وأعلي من بنائها؟ لماذا يحتكرها الان؟ ما سر تفوقه علينا؟ أين يكمن فيه الفضل؟ وأين يكمن فينا العيب؟ هل نستطيع ان نلحقه ثم نماشيه. وكيف؟ وكتب يحيي حقي الخاطرة الادبية. مثله في ذلك الاديب الكبير الراحل إبراهيم عبدالقادر المازني فهو قد استخدم نفس الاسلوب التحدثي واللغة المكثفة الموحية. وغلبة الاستطرادات والنبرة الساخرة سواء من الفنان ذاته أو من الآخرين وقدم يحيي حقي في هذا المجال عشرات المقالات التي يرقي بعضها إلي أعلي مستويات النثر العربي إطلاقاً. ولعل محمود طاهر لاشين أول من تنبه إلي خاصية الدعابة عند يحيي حقي. فقد كتب في 1927 يثني علي روح الدعابة الجذابة الواضحة في معظم قصص حقي. وإذا كان المازني قد داعب نفسه أحياناً إلي حد السخرية من تكوينه الجسمي ومن ساقه المهيضة فإن حقي يصف تكوينه الجسدي بأن الاصدقاء يسلكونه بين الطوال تكرماً منهم وبسبب الالفة والعادة لا النظرة الموضوعية أما عند بقية الناس فالحياء يمسكهم إلا ان يقولوا ان الاقزام أقصر منه!.. وعندما التقينا في الطريق بابن عم له. قدمه لي قائلاً: سالم حقي. ابن عمي.. واردف ببساطة. أقصر مني.. مع ذلك. فإنه كان يرفض "الاستظراف" يقابله بما يلجم التصرف الاحمق. أو يبتر الجملة السخيفة. وقد ترجم حقي العديد من أهم الاعمال الادبية العالمية. من بينها: دكتور كنوك لجول رومان. العصفور الازرق لموريس ميترلنك. الاب الضليل لاديث سوندرز البلطة لميخائيل سادوفيانو لاعب الشطرنج لستيفان زفايج. وطونيوكر ووجر لتوماس مان إلخ.. وترجمات حقي تأكيد علي أهمية ان يتولي المبدعون الكبار ترجمة الاعمال الادبية في اللغات الاخري. إن المبدع هو أقدر الناس علي الترجمة. فتخلو من الحرفية والجفاف والركاكة. وهو ما تتسم به- في الاغلب- معظم الترجمات التي يتولاها مترجمون محترفون أو هواة. عاشق المصرية يحيي حقي عاشق للمصرية. ناسها ومفرداتها وطبيعتها السلهلة القاسية أعجبني تعبيره: أنت لو عصرتني في عصارة قصب. فلن تخر مني إلا نقطاً مصرية تماماً. في ابداعات يحيي حقي- رغم قلتها. نسبياً- رائحة اليود علي شاطئ الانفوشي. صفائح الحجارة في حواري الجمالية. مآذن القاهرة. عادت وتقاليد ناس الصعيد. بساطة الحياة في الوجه البحري. السماء الصافية والنخيل والسواقي والجسور والكباري والارابيسك والمشربيات والكتاتيب والقلل القناوي وعربات الكارو والباعة السريحة والطواقي والطرابيش واللبد والجلابيب والملاءات اللف والزحام والنكتة اللماحة والشجن والمأساة والصبر والامل والثأر.. لحظات مصرية خالصة. عناق مذهل لتراث سبعة آلاف سنة من حياة شعبنا السخرية المشفقة. والاتكال علي الله والايمان بحتمية القضاء والقدر. والعزف علي ربابة الوجدان.. جزء من اللحظات المصرية المتواصلة والممتدة أما الفنان نفسه فإني أضيفه إلي المشاعل الذين تبدو صورة مصر من خلال إبداعاتهم رائقة مشمسة: النديم والتونسي ومختار وسيد درويش والحكيم وجاذبية سري ولاشين ومحفوظ وعبدالصبور وإدريس وإنجي افلاطون وغيرهم متحمس دوماً. منفعل غالباً. وإن تواري التحمس والانفعال في نبرة هادئة لاتعلو علي الهمس أتصور نظرته التي يمتزج فيها الذكاء والطيبة وكلماته المتسائلة تتخللها تلك الكلمة "أفندم" المستمدة من أصل تركي. ذاب تماماً في الحياة المصرية: النبع حروف ثلاثة مصر.