في مجموعته القصصية "الجدة حميدة" تستطيع بسهولة أن تتعرف إلي عالم الكاتب حسن الجوخ المنحدر من أصول ريفية هيمنت علي مقدرات حياته وتفكيره وعلقه الباطن أيضاً. والكتاب بجانب احتوائه علي ثماني قصص قصيرة يتضمن إهداء يعكس بجلاء شخصية الكاتب في بساطته وشغفه بالماضي وأصدقاء الصبا وأهالي قرية "كفر عزام" وكذلك ملهمة هذا العمل المتميز "الجدة حميدة". وبساطة الكاتب المدهشة في عكس عالمه الداخلي ضمن لوحات سردية بسيطة عميقة تترك في القلب غصة لا يتخلص منها. الكاتب يثق فيما يكتب بوضوح. ويعلم ما الذي يريده. خلال قصص المجموعة يمكنك بسهولة استكشاف تفرده وتميزه في آن معاً. من السهل أن تتعرف إلي عالمه ومفرداته الأثيرة في نص أدبي حتي دون توقيعه أو أن يكون ممهوراً بتوقيعه. فهو يكتب القصة من منظور فلاح حقيقي يعايش الواقع الريفي ويكابده. المحاور المركزية التي تهيمن علي مقدرات فكر وقلم الكاتب أيضاً بسيطة ومدهشة يمكن اختزالها علي النحو التالي: أولاً: انشغاله بعالم القرية وهموم التفاصيل الدقيقة. وهؤلاء الأبطال المساكين المهمشين الساعين لمجرد طلب الحق في الحياة لا أكثر. كما في قصص المجموعة باستثناء القصة الأخيرة "سفر الروح" التي تتميز بتجربة خاصة مختلفة في الشكل والمضمون سنعرض لها لاحقاً. ثانياً: استخدامه الخاص لمفردات سردية تناسب البيئة المحلية مسرح الأحداث والحكي وجرأة المغامرة في تداول مفردات غير معتادة الاستخدام في النصوص السردية. لكنها تلائم السياق وتتطابق معه مثل لبدت تحت جناحها. الدحديرة. قدام دار العمدة. يبشبش. افتكر. يحطها في السيالة. بص علي بهائمه. تحط في عينيها الكحل. ثالثاً: توحد الأبطال وبيئة الحكي عموماً بما هو موروث من تراث وتقاليد هيمنت علي روح النصوص فالجدة حميدة تحولت إلي أسطورة يتردد صداها بين ألسنة أهل القرية عقب اختفائها الغامض. واحتفاء أهل القرية الفقراء بيوم شم النسيم علي طريقة أجدادهم القدامي. قبل أن يثور موسي الغريب علي المحتفين في النهر انتقاماً لغرق ولده الوحيد "يوسف". ويمسك برقبة "رمضان" بائع البيض الذي يعتقد أنه تسبب في غرق ابنه وضاعا معاً في النهر مثلما ضاع ولده. وفي قصة "الجورة" يكون هناك صدي للتراث من خلال تلك الأغاني التي قهر بها الأنفار الفقراء بؤسهم وأيامهم القاسية في موسم نقاوة الدود: "وطلعنا الجبل" يوحه ننقي سبل. يوحه. سبل ما لقينا يوحه. وشاهين ما مات بوحه. خلف بنات يوحه. رابعاً: لم ينشغل الكاتب بأهمية تشييد حبكة درامية تقليدية. تلازم كل قصة من قصص المجموعة قدر انشغاله بتأسيس لوحات سردية محبوكة الشكل والبناء. بيئة درامية تتصارع فيها صور الأبطال مع بيئتهم وتراثهم بطريقة مدهشة في هدوئها واتزانها وعبقريتها. كما كان استخدامه للرمز متسقاً إلي حد بعيد مع الصور البسيطة التي نحتها من مفردات البيئة البسيطة. ففي قصة "الجدة حميدة" نتابع هذه السيدة الفقيرة منتوفة الجذور. وهي تخوض في شوارع القرية وأزقتها. تستلب حب الجميع. وتملك مستودع أسرار الشباب والبنات. ثم ينهار بيتها وتختفي. وتتحول إلي أسطورة يمكن مصادفتها في كل مكان. والمعني الرمزي الذي أراد الكاتب إدراكه ربما أن الحب والجدية والعطاء قيم لا يمكن أن تموت. وقد تصادفها في كل مكان. وفي قصته "موسي الغريب" ينشغل الكاتب بنفس فكرة الشخص منتوف الجذور الذي تحول باجتهاده وعصاميته إلي تاجر كبير يتزوج أخت العمدة وينجب منها ولداً وحيداً يغرق في النهر يوم الاحتفال بشم النسيم. ويتحول حزنه إلي حالة مستعصية من اضطراب التفكير. واتهام للشخص الذي حاول إنقاذ ولده إنه قاتله. وفي الوقت نفسه من السنة ينفجر كل شيء داخله. ويمسك برقبة الولد رمضان بياع البيض. الفتي المتهم ويغرق معه في نفس مكان غرق ولده. واستخدام الرمز هنا لا يختلف كثيراً عن استخدامه في القصة السابقة "الجدة حميدة" كأنما أراد أن يؤكد علي قيمة الجذور لدي الإنسان. وإن من ليس له جذور مصيره العدم أو الغرق. ويبدو أن الطبيعة العنصرية متجذرة بقوة في نفوس هؤلاء البسطاء الذين لا يقبلون الغرباء. ويبدو أن ذلك كان سر احتجاج موسي وثورته ليس علي بياع البيض الذي تسبب في قتل ولده فحسب. بل علي القرية كلها. حيث نزل ضرباً بالفرقلة علي ظهورهم العارية. وفي قصة "الجورة" استعراض تشكيلي بالكلمة لموسم جمع لطع شجر القطن في القرية. والتصارع هنا بين العلم والاستغلال المفرط لجهود الفقراء. وحاجة هؤلاء الفقراء للمال من أجل لقمة العيش. وتكون الشائعات سلاح الفقراء ضد الظلم والجبروت. تظل الشائعات تتواتر بين حين وآخر لتكشف عن مدي الانحدار الأخلاقي لمعاوني العمدة. وكذلك عن فساد وظلم العمدة وأولاده الذين يمثلون الطبقة الحاكمة في القرية. وهنا إسقاط رمزي واضح الدلالة عما يعانيه الفقراء والمتعلمين من جراء الفساد والظلم بصفة عامة. وفي قصة "البطل" يخرج الكاتب من القرية ويعود إليها مرة أخري من خلال ذلك الشاب الريفي الحاصل علي وسام في الحرب عام 1973 بطريق الخطأ. هنا يبرع الكاتب في تصوير الخلجات الداخلية لهذا الشاب أثناء عودته إلي البلدة في القطار يوم تقلده الوسام. توتر وقلق. واضطراب. وأخيراً خوف من الحقيقة. أو خوف من إعلان الحقيقة. وفي أثناء احتفاء أهل القرية به تصارعت في رأسه كل هذه المشاعر والاضطرابات. التي لم يتمكن أحد من أهل القرية من اصطيادها. ولم يكن مدهشاً إن الشاب نفسه لم يكن مستعداً أن يجرأ علي إعلان أنه لا يستحق هذا الوسام. لأنه قضي فترة الحرب داخل مخبئه. وإن هناك كثيرين لم يحتموا بالمخابئ وماتوا أبطالاً. لكن الأكثر مبعثاً علي الدهشة إن الكاتب نفسه اكتفي بالتلميح. وكأنه أراد من ذلك أن يعلن حساسية الموقف. إن من حاربوا فعلاً لم يحصدوا ثمار الحرب. بل حصد الثمار أولئك الذين لاذوا بالمخابئ وتجنبوا ويلاتها. وهذا ما حصل فعلاً. والكاتب نجح في إيصال هذه الرسالة إلي قارئة دون مباشرة. وفي قصة "حنين" التي تختلف في الشكل والمضمون عن بقية قصص المجموعة نستمتع بصدي تجربة عاطفية خاصة متميزة للكاتب مناجاة علي الطريقة الصوفية تختفي فيها القرية والشخوص لصالح نص يحمل لغة الشعر ومناجاة لحبيب رحل عن واقع حبيبه. لكن تفاصيله تفيض في المكان بالنور والحنان والحب. إنه نص استعرض فيه الكاتب قدرته علي سبر أغوار النفس البشرية بشفافية. وقدرته علي البوح بصوت هامس جميل يفيض بالحب والروعة.