«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عالم
بيترا هولوفا
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 03 - 2015

تخرجت في عام 2003. اقامت لفترات قصيرة بسبب الدراسة بمنغوليا، والولايات المتحدة الأمريكية، وهي البلدان التي صارت لاحقا مسرحا لأحداث بعض روايتها (مذكرات جدتي، وسيرك الذكريات، ومحطة التايغا). هي أم لطفلين هما يوسف وكارل، وزوجة لموظف بوزارة التجارة والصناعة.
تكتب بشكل منتظم منذ عام 2007 بمجلة "ريسبيكت"، كما تنشر مقالاتها في العديد من المجلات الادبية مثل "ليتيرارني نوفيني"، و"سوفيسلوستي"، وغيرها. أما اعمالها الابداعية فلها ايقاع خاص تقول عنه هولوفا: "ربما تمر ستة أشهر دون أن أكتب كلمة واحدة، بينما لا أنقطع عن الكتابة في النصف الثاني من العام، وفيه يخرج كل إنتاجي. ليس لحياتي أي ايقاع يومي ثابت، إما أني لا اكتب شيئا علي الإطلاق، أو أكتب بلا توقف، حتي أني لا أفعل شيئا عدا الكتابة" (في حوار لصحيفة اي دنيس النسخة الاليكترونية 2008)
تعد رواية "مذكرات جدتي" باكورة إنتاجها الأدبي 2002، صدر بعدها في عام 2004 "عبر زجاج معتم"، و"سيرك الذكريات" في 2005، وفي 2006 صدر "ثلاث حجرات بلاستيكية"، و"محطة التايغا" في 2008، و"حماة الصالح العام" 2010 (صدرت ترجمتها العربية في القاهرة 2015 تحت عنوان "حدث في كراكوف")، و"بوهيميا"، و"الارض الموعودة" 2012، وروايتها الاخيرة "الهاوية" 2014. جميعها صدرت في دار النشر التشيكية "تورست".
مذكرات جدتي
رواية تدور أحداثها في منغوليا القرن العشرين، وتروي مصائر عدة أجيال من نساء إحدي العائلات المنغولية. يتناول الإطار العام للرواية التناقض بين الاسلوب التقليدي للحياة في المناطق الريفية داخل منغوليا، وبين طريقة الحياة في المدن، كما تبرز أحداث الرواية الاختلاف بين الأجيال المختلفة. هي حكاية عائلة تتكون من أم وأب وبناتهم الاربعة ذ "دزايا"، و"ماجي"، و"نارا"، و"اويونا"- ترويها الجدة، والأم، والابنة، وهكذا تنقل لنا هذه الشخصيات الحدث من منظور ثلاثة اجيال مختلفة، ومن خلال قصصهم نعرف كيف كبرت البنات، وكيف ماتت الجدة، وكيف لقيت الابنة الكبري "ميرا" حتفها في حادث مأسوي في أحد سباقات الخيل.
ينقسم العمل إلي ستة فصول، تقوم "دزايا" في الفصل الأول بدور الراوي، بينما تقوم ابنتها "دولجورما" برواية الفصل الثاني، وتروي الجدة "ألتا" حكاية الفصل الثالث، أما الحكاية الرابعة فترويها "اويونا"، والخامسة "نارا"، وتستعيد "دزايا" دور الراوي في الفصل السادس والأخير. وهكذا تبدأ "دزايا" الحكاية، وتليها سيدات العائلة كل منهن تحكي الحكاية من منظورها الخاص، وتضيف تفاصيل جديدة، تلتقطها من تتقمص دور الراوي في الحكاية التالية، وهكذا إلي أن يتسلم مقاليد السرد مرة أخري الراوي الاول "دزايا".
تنحدر الجدة "ألتا" من أسرة فقيرة، عاشت طفولة تعيسة نتيجة الخلافات الدائمة بين والديها، وإدمانهما الكحول، ما أدي إلي إهمال الأبناء. ولما كبرت التقت "توليج"، شاب من أسرة ثرية تمتهن تربية الخيول والأغنام، فتزوجا، وانتقلت للعيش مع أسرته. وهناك أنجبت بناتها الأربع ذ "ميرا" محبوبة أبيها ثم "دزايا" ومن بعدها "نارا" (كانتا ثمرة علاقة عاطفية جمعت الام ألتا وصديق شقيقتها "ميرجين" ذو الاصول الروسية)، و"ايونا" الابنة الصغري.
بعد أن تتم "دزايا" دراستها بمدرسة البلدة الصغيرة التي تعيش فيها (بادية الجبال الحمراء)، تنتقل بصحبة خالتها الي المدينة (العاصمة اولان باتور)، لتبحث عن عمل مناسب، وزوج تبدأ معه حياة جديدة مختلفة، فتفشل في الحصول علي العمل الذي تحلم به، وينتهي بها الحال بالعمل في بيت الدعارة الذي تديره خالتها، وقد أنجبت من أحد المترددين عليهم ابنتها "دولجورما"، التي اخذت تنفق عليها ببذخ شديد، وعندما أدركت "دولجورما" حقيقة مصادر إنفاق والدتها، هربت من البيت، وقطعت علاقتها بأمها، وهي ابنة السادسة عشر. ولأنها لم تكن تتقن أي عمل، ولم تتعلم أي شيء مفيد حتي ذلك السن، اضطرت في النهاية إلي العودة الي بيت أمها، التي بدورها كانت قد فقدت الأمل من طول انتظار عودة الابنة، وتركت العمل ببيت الدعارة، وانتقلت للحياة ببلدتها الصغيرة لتعيش مع أسرة أختها "اويونا".
أما "نارا" فقد وقعت في غرام أحدهم في البلدة، وهو الشخص الذي لم يقدر ذلك الحب الكبير، أو بالأحري لم يستطع تحمله، فكاد عقلها يطيش من فرط الحزن، ومن ثم اجبرها والدها علي الرحيل إلي المدينة، حيث انتهي بها المطاف أيضا في بيت الدعارة، الذي تولت إدارته بعد خالتها. أما صغري البنات "اويونا" فقد تزوجت وبقيت في بلدتها الريفية مع والديها وابنائها الثلاثة ترعاهم حتي النهاية، ولم تنتقل للعيش في المدينة أسوة بأختيها، اللتين لم تكن تحمل لهما أي مشاعر ود، ولم تنس أو تغفر لهما سوء معاملتهما لها في طفولتها.
عبر زجاج معتم
وفي عملها الثاني، تبقي هولوفا علي أرض الوطن، تعالج هذه المرة العلاقة بين الأم وابنها، تلك العلاقة التي تنكشف تفاصيلها عبر زجاج معتم، يتعمد الأبطال رؤية الواقع من خلاله. تبرز القصة الفروق الواضحة بين الأم والابن الشاب "اوندرشي" في رؤية وتقييم الحياة والمحيطين بهم. أما الموتيفة الأساسية هنا فهي الوحدة، والانعزال، وعدم الصدق مع الذات، وخداع النفس. تُظهر الكاتبة من خلال العمل معرفة عميقة بالنفس البشرية، والطبيعة الإنسانية، والعلاقات بين البشر. تعتمد في السرد علي سلسلة من الحلقات الصغيرة، التي تعطي انطباعا بأنها منتزعة من السياق الثقافي التاريخي المعاصر. تقدم نظرة علي الحياة المعاصرة، هي نظرة بعين لا تريد أن تري، تنظر من خلف زجاج معتم، لأنها قررت ألا تري. الغرض الذي تسعي الكاتبة لإثباته هو إدانة تبني فلسفة ثابتة في الحياة. يعتمد العمل علي المونولوج الداخلي للشخوص.
المونولوج الاول يؤديه الابن "اوندرشي"، ذلك الشاب الذي يقف علي أعتاب الثلاثين، وقد فشل زواجة ب"ماريا"، التي انجبت له ولده يعقوب. أما الثاني فهو في عهدة الأم، تطلقه أو تحرره من أعماقها قبل قليل من خروجها علي المعاش.
يتراجع هنا دور الحدث ليتيح المجال لسبر أغوار النفس البشرية وما يعتمل فيها من أفكار وتأملات ورغبات وإخفاقات. الخلفية المكانية هي المدينة المعاصرة (براغ)، وهنا تظهر الأحداث التي تدور فيها بصورة ضبابية، غير واضحة. هي إذن مناجاة شخصية تستهدف بلورة نظرة جيلي الآباء والأبناء للذات، للواقع، للأحداث، وللآخرين من حولهم، حتي لو كانت تلك النظرة أسيرة جدران الغرفات التي تنطلق منها. اما الزمان فنستطيع القول إننا هنا لا نتحدث عن زمان خارجي، بل هو زمان داخلي يتجلي من خلال احساس الشخوص به، فهي تشعر بتقدمها في العمر وضعف قوتها بغض النظر عن الزمان خارج ذواتهم. هم يتحكمون بالزمن، فها هو "اوندرشي" تارة يشرب الخمر ليتحكم في الزمن بتقصير الوقت، وتارة اخري تقول عنه الراوية: "كما لو كان يسير ليلا، وإذا به يدرك أمه، وقد تقدم بها العمر فجأة، هكذا كما تذبل الأزهار في المزهرية".
سيرك الذكريات
تعود الكاتبة من جديد في روايتها الثالثة لتنقل موقع الحدث إلي بيئة أجنبية، هذه المرة تتنقل بين نيويورك، براغ وآسيا، وذلك بحسب مسار السرد المتعلق بحياة وأقدار ومواقف وذكريات أبطال العمل والبيئات التي يعيشون فيها، أو ينتقلون إليها. تمتزج في الرواية عدة حكايات في مشهد واحد من نيويورك المعاصرة. ينقل العمل هنا صورة لعالمين مختلفين ذ عالم المهاجرين أو حتي زوار نيويورك لفترة قصيرة، والعالم الشرقي الذي يكتنفه هنا الغموض (لم يذكر اسم البلد). نتابع ثلاثة أجيال من المنفيين، الذين تتقاطع مصائرهم لفترة طويلة أو لبعض الوقت. محور الرواية يكمن في التقاط طبيعة العلاقات النفسية الخفية والمعقدة، ويتحرك السرد بسلاسة من بيئة إلي بيئة، ومن قصة إلي أخري.
تتنقل الكاتبة بخفة وبراعة بالحكاية، ليس فقط بين أبطال العمل، ولكن أيضا بين حدود الزمان والمكان. تتدفق القصة بشكل طبيعي، تقترب من أسلوب تيار الوعي الذي لا يتقيد بالاسترسال في السرد، بل إن الراوي ينتقل بمنتهي الخفة من فكرة إلي حدث إلي ذكري وهكذا، وربما يكون الرابط هنا مجرد كلمة أو صورة. ليس الهدف هنا أن يكون لكل شخصية تظهر في العمل مساحتها الخاصة التي تعني برسم ملامحها التفصيلية، فالأمر هنا يبدو وكأن القصة تحكي عن "لا شيء"، وربما يكون هذا منطقي، وقد سبق إشارة الكاتبة إليه من خلال عنوان القصة "سيرك الذكريات".
ثلاث حجرات بلاستيكية
سردية من الصعب هنا أن نسميها رواية. نتعرف عليها من خلال مونولوج مثير لعاهرة في منتصف العمر، تحكي فيه تصوراتها وخبراتها في عالم الغانيات. تعيد تقييم حياتها، فتتذكر ما فعلت وما مر بها من مواقف في تلك المهنة، وذلك بطريقة لا تخلو من الفكاهة والكوميديا (علي سبيل المثال عندما تقوم بتصنيف عملائها من الرجال، وكذلك زوجاتهم المخدوعات).
ربما كان اختيار الموضوع صادما للبعض، إلا أن تناول هولوفا لهذه التيمة كان متفردا تماما. ليست هذه قصة مبتذلة موجهة للرجال علي سبيل استثارة المتعة، ولكنها هنا تحكي ببراعة تذكرنا بحكايات الجدات للصغار قبل النوم، فهي توظف الالفاظ توظيفا ناجحا ومبتكرا، ليوحي بما لم تصرح به، حتي أنها علي سبيل المثال اختارت مسميات خاصة بها، ومن نسج خيالها لتجسد بها الاعضاء التناسلية للرجل والمرأة.
تلعب اللغة، التي تتسم بالثراء والتنوع الابتكار، وكذلك ايقاع الجملة في هذا العمل، دورا غاية في الأهمية، فتستخدم الأديبة أسلوب التصغير، بما يضفيه علي المعني من حميمية. تظهر لغة العمل التناقض الواضح الذي يصل الي حد الكوميديا بين لغة الفصحي للراوي واللغة المبتذلة للبطلة، والتي تستخدم فيها ألفاظا من قاموس الغانيات. فالكوميديا، ومحاولة حفظ التوازن الذي يقف علي حافة الفسوق، ولا ينزلق إليه، تحمل في الجنس موضوعا ظاهرا لها. فهي تكمل بالكوميديا والفكاهة اللفظية ما بدأه السرد.
محطة التايغا
الرواية الخامسة للأديبة تنقلنا هذه المرة الي عالم المغامرة والتشويق. عالم ترتبط فيه الأزمان المختلفة، القارات، والبيئات الحضارية، ومنظومة القيم والطبائع. تدور الأحداث مرة أخري في بيئة أجنبية، تتجه الأديبة هذه المرة شرقا نحو حدود منغوليا من الجانب الروسي. والأبطال هنا من السكان المحليين في القري والبلدات النائية، جنبًا الي جنب مع اثنين من المغامرين الدنماركيين الذين علي اختلاف الأجيال التي يمثلونها، يديرون الحدث في تلك البقعة المنسية من الأرض، حيث الغابات المظلمة العميقة اللامتناهية، المليئة بالمستنقعات، والحيوانات البرية، وأسراب البعوض متفاوتة الحجم. تحاول هولوفا وصف البيئة الأجنبية الغريبة من عدة نواح، ومن مختلف زوايا الرؤية، أحيانا بالإسهاب في الوصف، وبلغة ساحرة، شاعرية، يكون الوصف أحيانا واقعيا، مركزا، ومختصرا. يروي الحدث قصص ومصائر شخصيات الرواية التي تتشابك مع بعضها البعض في عدة مستويات زمنية ذ أحداث الرواية تجري في فترتين زمنيتين من التاريخ الروسي في القرن العشرين، وهما فترة ما بعد الحرب المفعمة بالأمل، جراء هيمنة الدولة السوفيتية العظمي من خلال تطبيق ونشر كل تفاصيل ومبادئ الفكر الاشتراكي الذي نشرته في وسط وشرق أوروبا من جانب، ومن جانب آخر فترة التسعينيات التي شهدت سقوط الدولة السوفيتية العظمي، وأفول نجمها ذ وفي كلتا الفترتين تلقي الامبراطورية الروسية والبلشفية الاستبدادية التي امتدت عقودا، بظلالها الواضحة علي الأحداث. يمكن القول هنا إن الرواية تتبني منهج الثنائيات: الشرق في مواجهة الغرب- السكان الأصليين والمهاجرين إلي لتايغا السيبيرية والدول العرقية الصغيرة بما يمثلون من سمات الخير، الحرية، قوانين الطبيعة وقانون الأقوياء في مقابل الأمم العظمي كالألمان، بما يمثلون من سمات الشر والقيود التي تحد من حرية الفرد، قوانين الحق وقواعد الحزبية، أما الثنائية الثانية فهي جيل الكبار في مقابل جيل التسعينيات بشقيهذ جيل المغامرين، الرحالة، الباحثين عن الحقيقة في أي مكان كانت (هابلوند وايرسكا ذ المغامران الدانماركيان) في مواجهة أصحاب الأرض المقيمين الذي يبقون في مواقعهم انتظارا للخلاص. وهكذا ننتقل من الدانمارك الي سيبيريا ثم الي الدانمارك من جديد، لنري الواقع بعيون الرجال والنساء، المثقفين وغير المعنيين بالمعرفة والثقافة. تتبني الأديبة في العمل دور المراقب المتابع للطرفين من دون أن تميل أو تنحاز لأي منهما، وكأنها تريد أن تقول في النهاية: هنا نستعرض نمطين حضاريين وجيلين مختلفين لكل منهما سلبياته وايجابياته وتترك للقارئ حرية الرأي في الحكم عليهما، أو الانحياز لأي منهما، أو ربما تبني موقف الكاتبة المحايد. "محطة التايغا" رواية واقعية طياتها تعتمد علي تدفق السرد في قصة تقدم مغامرة مثيرة معروضة بشكل شائق.
حدث في كراكوف
العمل السادس ل"هولوفا" يمكن تكثيف مضمونه في عبارة "الواقع التشيكي المعاصر بعيون المنهزمين". "حماة الصالح العام" أو "حدث في كراكوف" بحسب الترجمة العربية، رواية سياسية نقدية في قالب ساخر، تناقش التحولات السياسية والمجتمعية التشيكية بعد عام 1989، أي بعد نجاح الثورة المخملية، واقتلاع الشيوعيين من السلطة، وتنحيتهم عن الحكم في البلاد. لا تري بطلة الرواية العالم قبل نوفمبر 1989 (النظام الشيوعي) مثاليا، ولكنه من وجهة نظرها أفضل عالم ممكن التوصل إليه، وتؤكد في ثنايا الحدث إيمانها بأن الواقع الجديد مليء بالأخطاء، التي لا يمكن السكوت عليها، أو التأقلم معها، بل إنها باتت تعتقد أنه ينبغي، حتي ولو بالقوة، أن تجبر الآخرين علي أن يستشعروا خطأ معتقداتهم، باعتبارها أحد حراس الخير، وحماة المصلحة العامة. تعتمد هولوفا هنا السرد من خلال المونولوج علي لسان البطلة، التي لم تسمها في العمل، والتي لا يمكن تصنيفها علي أنها شيوعية متعصبة، ولكنها تجد حلا ممكنا في الفلسفة الاشتراكية التي تتبني النظم الشيوعية مبادئها، والتي من أهمها التضامن الإنساني، والعدالة الاجتماعية. تتخذ الرواية علي سبيل الرمز من حي كراكوف النموذجي بيئة للحدث. تم بناء كراكوف كواحدة من عدة أحياء نموذجية في عهد الشيوعية لإقامة وحدات سكنية. بعد الثورة المضادة، وهو الاسم الذي تطلقه بطلة الرواية علي ثورة 1989، تحولت كراكوف إلي جيتو اجتماعي، خرج منه جيتو أعلي مكانه، وضرب بينهما بسور. تقرر البطلة بعدها أن تشكل، بالتعاون مع صديقتها "أنديلا"، وحدات طلائعية. شكلتها في البداية من الأطفال الفيتناميين من سكان المدينة، كمبادرة رائدة لدمج الأقليات، وتقليل الفجوة بين السكان. في أول الأمر كان عدد هؤلاء الرواد محدود، ثم ما لبث أن ازداد عددهم واشتد تطرفهم، وانضم إليهم الكبار. علي الجانب الآخر نجد "ميلادا"، أخت البطلة تمثل النموذج المضاد فكريا، فهي تعيش مع صديقها "ستاندا"، أحد المثقفين المعارضين للفكر الاشتراكي، الذين هم، من وجهة نظر بطلة الرواية، يدسون أنفهم في شئون المدينة، وما حولها، وينظرون إلي الآخرين من عل، من أبراجهم العاجية، فيفسدون حياة الآخرين، لأنهم لا يجيدون سوي التنظير، فيتحدثون ويتفلسفون، ويفسدون من حيث أرادوا الاصلاح.
تلفت الرواية إلي أن للحقيقة عدة وجوه، أي أننا يمكن أن نراها من زوايا عديدة، فما يراه أحدنا شيئا إيجابيا، جالبا للحرية، ربما يراه الاخر سلبيا، مثيرا للضيق، والقلق، والشعور بالفوضي. وعلي الرغم من أن أبطال الرواية مرتبطين بوحدة المكان والمصير، إلا انهم فاقدون القدرة علي التواصل، كل منهم يظل حبيس افكاره ومعتقداته الخاصة. تستعرض الكاتبة تلك الآراء المختلفة والمتعارضة من خلال افراد أسرة واحدة، تمثل في مجملها نموذجا حيا للمجتمع التشيكي المعاصر.
التشيك.. أرض الميعاد
تنتقل "أولجا" بطلة الرواية من أوكرانيا إلي بوهيميا (التشيك) هربا من الحرب، وبحثا عن فرصة عمل أفضل. هي قصة فتاة تعيش حياة قاسية وصعبة خارج موطنها. تتعامل القصة مع الصورة النمطية للأوكرانيين، وأصحاب العمل التشيك، والمنظمات الخيرية. هي ذلك الجنس الروائي الذي يسجل حياة العمالة الوافدة، التي تتمحور حياتها حول البحث عن لقمة العيش، وتأمين سبل العيش لأفراد الاسرة. يرسم العمل صورة الشخوص بطريقة ساخرة.
تقوم أولجا، بطلة الرواية، بدور الرابط الذي هو من ناحية ينقل صورة الحياة في اوكرانيا قبل رحيلها، كما يرسم من ناحية أخري صورة لحياة الوافدين الاوكرانيين إلي مجتمع العاصمة التشيكية براغ، وذلك من خلال المجموعة المحيطة بها من مواطني أوكرانيا. تأتي أولجا مع زوجها أوليخ إلي براغ بعد أن يتركا ابنتهما مارينا ذات ال 12 عاما من عمرها مع الجدة الخلفية الاجتماعية النقدية لقصة تتخذ من
تخرجت في عام 2003. اقامت لفترات قصيرة بسبب الدراسة بمنغوليا، والولايات المتحدة الأمريكية، وهي البلدان التي صارت لاحقا مسرحا لأحداث بعض روايتها (مذكرات جدتي، وسيرك الذكريات، ومحطة التايغا). هي أم لطفلين هما يوسف وكارل، وزوجة لموظف بوزارة التجارة والصناعة.
تكتب بشكل منتظم منذ عام 2007 بمجلة "ريسبيكت"، كما تنشر مقالاتها في العديد من المجلات الادبية مثل "ليتيرارني نوفيني"، و"سوفيسلوستي"، وغيرها. أما اعمالها الابداعية فلها ايقاع خاص تقول عنه هولوفا: "ربما تمر ستة أشهر دون أن أكتب كلمة واحدة، بينما لا أنقطع عن الكتابة في النصف الثاني من العام، وفيه يخرج كل إنتاجي. ليس لحياتي أي ايقاع يومي ثابت، إما أني لا اكتب شيئا علي الإطلاق، أو أكتب بلا توقف، حتي أني لا أفعل شيئا عدا الكتابة" (في حوار لصحيفة اي دنيس النسخة الاليكترونية 2008)
تعد رواية "مذكرات جدتي" باكورة إنتاجها الأدبي 2002، صدر بعدها في عام 2004 "عبر زجاج معتم"، و"سيرك الذكريات" في 2005، وفي 2006 صدر "ثلاث حجرات بلاستيكية"، و"محطة التايغا" في 2008، و"حماة الصالح العام" 2010 (صدرت ترجمتها العربية في القاهرة 2015 تحت عنوان "حدث في كراكوف")، و"بوهيميا"، و"الارض الموعودة" 2012، وروايتها الاخيرة "الهاوية" 2014. جميعها صدرت في دار النشر التشيكية "تورست".
مذكرات جدتي
رواية تدور أحداثها في منغوليا القرن العشرين، وتروي مصائر عدة أجيال من نساء إحدي العائلات المنغولية. يتناول الإطار العام للرواية التناقض بين الاسلوب التقليدي للحياة في المناطق الريفية داخل منغوليا، وبين طريقة الحياة في المدن، كما تبرز أحداث الرواية الاختلاف بين الأجيال المختلفة. هي حكاية عائلة تتكون من أم وأب وبناتهم الاربعة ذ "دزايا"، و"ماجي"، و"نارا"، و"اويونا"- ترويها الجدة، والأم، والابنة، وهكذا تنقل لنا هذه الشخصيات الحدث من منظور ثلاثة اجيال مختلفة، ومن خلال قصصهم نعرف كيف كبرت البنات، وكيف ماتت الجدة، وكيف لقيت الابنة الكبري "ميرا" حتفها في حادث مأسوي في أحد سباقات الخيل.
ينقسم العمل إلي ستة فصول، تقوم "دزايا" في الفصل الأول بدور الراوي، بينما تقوم ابنتها "دولجورما" برواية الفصل الثاني، وتروي الجدة "ألتا" حكاية الفصل الثالث، أما الحكاية الرابعة فترويها "اويونا"، والخامسة "نارا"، وتستعيد "دزايا" دور الراوي في الفصل السادس والأخير. وهكذا تبدأ "دزايا" الحكاية، وتليها سيدات العائلة كل منهن تحكي الحكاية من منظورها الخاص، وتضيف تفاصيل جديدة، تلتقطها من تتقمص دور الراوي في الحكاية التالية، وهكذا إلي أن يتسلم مقاليد السرد مرة أخري الراوي الاول "دزايا".
تنحدر الجدة "ألتا" من أسرة فقيرة، عاشت طفولة تعيسة نتيجة الخلافات الدائمة بين والديها، وإدمانهما الكحول، ما أدي إلي إهمال الأبناء. ولما كبرت التقت "توليج"، شاب من أسرة ثرية تمتهن تربية الخيول والأغنام، فتزوجا، وانتقلت للعيش مع أسرته. وهناك أنجبت بناتها الأربع ذ "ميرا" محبوبة أبيها ثم "دزايا" ومن بعدها "نارا" (كانتا ثمرة علاقة عاطفية جمعت الام ألتا وصديق شقيقتها "ميرجين" ذو الاصول الروسية)، و"ايونا" الابنة الصغري.
بعد أن تتم "دزايا" دراستها بمدرسة البلدة الصغيرة التي تعيش فيها (بادية الجبال الحمراء)، تنتقل بصحبة خالتها الي المدينة (العاصمة اولان باتور)، لتبحث عن عمل مناسب، وزوج تبدأ معه حياة جديدة مختلفة، فتفشل في الحصول علي العمل الذي تحلم به، وينتهي بها الحال بالعمل في بيت الدعارة الذي تديره خالتها، وقد أنجبت من أحد المترددين عليهم ابنتها "دولجورما"، التي اخذت تنفق عليها ببذخ شديد، وعندما أدركت "دولجورما" حقيقة مصادر إنفاق والدتها، هربت من البيت، وقطعت علاقتها بأمها، وهي ابنة السادسة عشر. ولأنها لم تكن تتقن أي عمل، ولم تتعلم أي شيء مفيد حتي ذلك السن، اضطرت في النهاية إلي العودة الي بيت أمها، التي بدورها كانت قد فقدت الأمل من طول انتظار عودة الابنة، وتركت العمل ببيت الدعارة، وانتقلت للحياة ببلدتها الصغيرة لتعيش مع أسرة أختها "اويونا".
أما "نارا" فقد وقعت في غرام أحدهم في البلدة، وهو الشخص الذي لم يقدر ذلك الحب الكبير، أو بالأحري لم يستطع تحمله، فكاد عقلها يطيش من فرط الحزن، ومن ثم اجبرها والدها علي الرحيل إلي المدينة، حيث انتهي بها المطاف أيضا في بيت الدعارة، الذي تولت إدارته بعد خالتها. أما صغري البنات "اويونا" فقد تزوجت وبقيت في بلدتها الريفية مع والديها وابنائها الثلاثة ترعاهم حتي النهاية، ولم تنتقل للعيش في المدينة أسوة بأختيها، اللتين لم تكن تحمل لهما أي مشاعر ود، ولم تنس أو تغفر لهما سوء معاملتهما لها في طفولتها.
عبر زجاج معتم
وفي عملها الثاني، تبقي هولوفا علي أرض الوطن، تعالج هذه المرة العلاقة بين الأم وابنها، تلك العلاقة التي تنكشف تفاصيلها عبر زجاج معتم، يتعمد الأبطال رؤية الواقع من خلاله. تبرز القصة الفروق الواضحة بين الأم والابن الشاب "اوندرشي" في رؤية وتقييم الحياة والمحيطين بهم. أما الموتيفة الأساسية هنا فهي الوحدة، والانعزال، وعدم الصدق مع الذات، وخداع النفس. تُظهر الكاتبة من خلال العمل معرفة عميقة بالنفس البشرية، والطبيعة الإنسانية، والعلاقات بين البشر. تعتمد في السرد علي سلسلة من الحلقات الصغيرة، التي تعطي انطباعا بأنها منتزعة من السياق الثقافي التاريخي المعاصر. تقدم نظرة علي الحياة المعاصرة، هي نظرة بعين لا تريد أن تري، تنظر من خلف زجاج معتم، لأنها قررت ألا تري. الغرض الذي تسعي الكاتبة لإثباته هو إدانة تبني فلسفة ثابتة في الحياة. يعتمد العمل علي المونولوج الداخلي للشخوص. المونولوج الاول يؤديه الابن "اوندرشي"، ذلك الشاب الذي يقف علي أعتاب الثلاثين، وقد فشل زواجة ب"ماريا"، التي انجبت له ولده يعقوب. أما الثاني فهو في عهدة الأم، تطلقه أو تحرره من أعماقها قبل قليل من خروجها علي المعاش.
يتراجع هنا دور الحدث ليتيح المجال لسبر أغوار النفس البشرية وما يعتمل فيها من أفكار وتأملات ورغبات وإخفاقات. الخلفية المكانية هي المدينة المعاصرة (براغ)، وهنا تظهر الأحداث التي تدور فيها بصورة ضبابية، غير واضحة. هي إذن مناجاة شخصية تستهدف بلورة نظرة جيلي الآباء والأبناء للذات، للواقع، للأحداث، وللآخرين من حولهم، حتي لو كانت تلك النظرة أسيرة جدران الغرفات التي تنطلق منها. اما الزمان فنستطيع القول إننا هنا لا نتحدث عن زمان خارجي، بل هو زمان داخلي يتجلي من خلال احساس الشخوص به، فهي تشعر بتقدمها في العمر وضعف قوتها بغض النظر عن الزمان خارج ذواتهم. هم يتحكمون بالزمن، فها هو "اوندرشي" تارة يشرب الخمر ليتحكم في الزمن بتقصير الوقت، وتارة اخري تقول عنه الراوية: "كما لو كان يسير ليلا، وإذا به يدرك أمه، وقد تقدم بها العمر فجأة، هكذا كما تذبل الأزهار في المزهرية".
سيرك الذكريات
تعود الكاتبة من جديد في روايتها الثالثة لتنقل موقع الحدث إلي بيئة أجنبية، هذه المرة تتنقل بين نيويورك، براغ وآسيا، وذلك بحسب مسار السرد المتعلق بحياة وأقدار ومواقف وذكريات أبطال العمل والبيئات التي يعيشون فيها، أو ينتقلون إليها. تمتزج في الرواية عدة حكايات في مشهد واحد من نيويورك المعاصرة. ينقل العمل هنا صورة لعالمين مختلفين ذ عالم المهاجرين أو حتي زوار نيويورك لفترة قصيرة، والعالم الشرقي الذي يكتنفه هنا الغموض (لم يذكر اسم البلد). نتابع ثلاثة أجيال من المنفيين، الذين تتقاطع مصائرهم لفترة طويلة أو لبعض الوقت. محور الرواية يكمن في التقاط طبيعة العلاقات النفسية الخفية والمعقدة، ويتحرك السرد بسلاسة من بيئة إلي بيئة، ومن قصة إلي أخري.
تتنقل الكاتبة بخفة وبراعة بالحكاية، ليس فقط بين أبطال العمل، ولكن أيضا بين حدود الزمان والمكان. تتدفق القصة بشكل طبيعي، تقترب من أسلوب تيار الوعي الذي لا يتقيد بالاسترسال في السرد، بل إن الراوي ينتقل بمنتهي الخفة من فكرة إلي حدث إلي ذكري وهكذا، وربما يكون الرابط هنا مجرد كلمة أو صورة. ليس الهدف هنا أن يكون لكل شخصية تظهر في العمل مساحتها الخاصة التي تعني برسم ملامحها التفصيلية، فالأمر هنا يبدو وكأن القصة تحكي عن "لا شيء"، وربما يكون هذا منطقي، وقد سبق إشارة الكاتبة إليه من خلال عنوان القصة "سيرك الذكريات".
ثلاث حجرات بلاستيكية
سردية من الصعب هنا أن نسميها رواية. نتعرف عليها من خلال مونولوج مثير لعاهرة في منتصف العمر، تحكي فيه تصوراتها وخبراتها في عالم الغانيات. تعيد تقييم حياتها، فتتذكر ما فعلت وما مر بها من مواقف في تلك المهنة، وذلك بطريقة لا تخلو من الفكاهة والكوميديا (علي سبيل المثال عندما تقوم بتصنيف عملائها من الرجال، وكذلك زوجاتهم المخدوعات).
ربما كان اختيار الموضوع صادما للبعض، إلا أن تناول هولوفا لهذه التيمة كان متفردا تماما. ليست هذه قصة مبتذلة موجهة للرجال علي سبيل استثارة المتعة، ولكنها هنا تحكي ببراعة تذكرنا بحكايات الجدات للصغار قبل النوم، فهي توظف الالفاظ توظيفا ناجحا ومبتكرا، ليوحي بما لم تصرح به، حتي أنها علي سبيل المثال اختارت مسميات خاصة بها، ومن نسج خيالها لتجسد بها الاعضاء التناسلية للرجل والمرأة.
تلعب اللغة، التي تتسم بالثراء والتنوع الابتكار، وكذلك ايقاع الجملة في هذا العمل، دورا غاية في الأهمية، فتستخدم الأديبة أسلوب التصغير، بما يضفيه علي المعني من حميمية. تظهر لغة العمل التناقض الواضح الذي يصل الي حد الكوميديا بين لغة الفصحي للراوي واللغة المبتذلة للبطلة، والتي تستخدم فيها ألفاظا من قاموس الغانيات. فالكوميديا، ومحاولة حفظ التوازن الذي يقف علي حافة الفسوق، ولا ينزلق إليه، تحمل في طياتها الخلفية الاجتماعية النقدية لقصة تتخذ من الجنس موضوعا ظاهرا لها. فهي تكمل بالكوميديا والفكاهة اللفظية ما بدأه السرد.
محطة التايغا
الرواية الخامسة للأديبة تنقلنا هذه المرة الي عالم المغامرة والتشويق. عالم ترتبط فيه الأزمان المختلفة، القارات، والبيئات الحضارية، ومنظومة القيم والطبائع. تدور الأحداث مرة أخري في بيئة أجنبية، تتجه الأديبة هذه المرة شرقا نحو حدود منغوليا من الجانب الروسي. والأبطال هنا من السكان المحليين في القري والبلدات النائية، جنبًا الي جنب مع اثنين من المغامرين الدنماركيين الذين علي اختلاف الأجيال التي يمثلونها، يديرون الحدث في تلك البقعة المنسية من الأرض، حيث الغابات المظلمة العميقة اللامتناهية، المليئة بالمستنقعات، والحيوانات البرية، وأسراب البعوض متفاوتة الحجم. تحاول هولوفا وصف البيئة الأجنبية الغريبة من عدة نواح، ومن مختلف زوايا الرؤية، أحيانا بالإسهاب في الوصف، وبلغة ساحرة، شاعرية، يكون الوصف أحيانا واقعيا، مركزا، ومختصرا. يروي الحدث قصص ومصائر شخصيات الرواية التي تتشابك مع بعضها البعض في عدة مستويات زمنية ذ أحداث الرواية تجري في فترتين زمنيتين من التاريخ الروسي في القرن العشرين، وهما فترة ما بعد الحرب المفعمة بالأمل، جراء هيمنة الدولة السوفيتية العظمي من خلال تطبيق ونشر كل تفاصيل ومبادئ الفكر الاشتراكي الذي نشرته في وسط وشرق أوروبا من جانب، ومن جانب آخر فترة التسعينيات التي شهدت سقوط الدولة السوفيتية العظمي، وأفول نجمها ذ وفي كلتا الفترتين تلقي الامبراطورية الروسية والبلشفية الاستبدادية التي امتدت عقودا، بظلالها الواضحة علي الأحداث. يمكن القول هنا إن الرواية تتبني منهج الثنائيات: الشرق في مواجهة الغرب- السكان الأصليين والمهاجرين إلي لتايغا السيبيرية والدول العرقية الصغيرة بما يمثلون من سمات الخير، الحرية، قوانين الطبيعة وقانون الأقوياء في مقابل الأمم العظمي كالألمان، بما يمثلون من سمات الشر والقيود التي تحد من حرية الفرد، قوانين الحق وقواعد الحزبية، أما الثنائية الثانية فهي جيل الكبار في مقابل جيل التسعينيات بشقيهذ جيل المغامرين، الرحالة، الباحثين عن الحقيقة في أي مكان كانت (هابلوند وايرسكا ذ المغامران الدانماركيان) في مواجهة أصحاب الأرض المقيمين الذي يبقون في مواقعهم انتظارا للخلاص. وهكذا ننتقل من الدانمارك الي سيبيريا ثم الي الدانمارك من جديد، لنري الواقع بعيون الرجال والنساء، المثقفين وغير المعنيين بالمعرفة والثقافة. تتبني الأديبة في العمل دور المراقب المتابع للطرفين من دون أن تميل أو تنحاز لأي منهما، وكأنها تريد أن تقول في النهاية: هنا نستعرض نمطين حضاريين وجيلين مختلفين لكل منهما سلبياته وايجابياته وتترك للقارئ حرية الرأي في الحكم عليهما، أو الانحياز لأي منهما، أو ربما تبني موقف الكاتبة المحايد. "محطة التايغا" رواية واقعية تعتمد علي تدفق السرد في قصة تقدم مغامرة مثيرة معروضة بشكل شائق.
حدث في كراكوف
العمل السادس ل"هولوفا" يمكن تكثيف مضمونه في عبارة "الواقع التشيكي المعاصر بعيون المنهزمين". "حماة الصالح العام" أو "حدث في كراكوف" بحسب الترجمة العربية، رواية سياسية نقدية في قالب ساخر، تناقش التحولات السياسية والمجتمعية التشيكية بعد عام 1989، أي بعد نجاح الثورة المخملية، واقتلاع الشيوعيين من السلطة، وتنحيتهم عن الحكم في البلاد. لا تري بطلة الرواية العالم قبل نوفمبر 1989 (النظام الشيوعي) مثاليا، ولكنه من وجهة نظرها أفضل عالم ممكن التوصل إليه، وتؤكد في ثنايا الحدث إيمانها بأن الواقع الجديد مليء بالأخطاء، التي لا يمكن السكوت عليها، أو التأقلم معها، بل إنها باتت تعتقد أنه ينبغي، حتي ولو بالقوة، أن تجبر الآخرين علي أن يستشعروا خطأ معتقداتهم، باعتبارها أحد حراس الخير، وحماة المصلحة العامة. تعتمد هولوفا هنا السرد من خلال المونولوج علي لسان البطلة، التي لم تسمها في العمل، والتي لا يمكن تصنيفها علي أنها شيوعية متعصبة، ولكنها تجد حلا ممكنا في الفلسفة الاشتراكية التي تتبني النظم الشيوعية مبادئها، والتي من أهمها التضامن الإنساني، والعدالة الاجتماعية. تتخذ الرواية علي سبيل الرمز من حي كراكوف النموذجي بيئة للحدث. تم بناء كراكوف كواحدة من عدة أحياء نموذجية في عهد الشيوعية لإقامة وحدات سكنية. بعد الثورة المضادة، وهو الاسم الذي تطلقه بطلة الرواية علي ثورة 1989، تحولت كراكوف إلي جيتو اجتماعي، خرج منه جيتو أعلي مكانه، وضرب بينهما بسور. تقرر البطلة بعدها أن تشكل، بالتعاون مع صديقتها "أنديلا"، وحدات طلائعية. شكلتها في البداية من الأطفال الفيتناميين من سكان المدينة، كمبادرة رائدة لدمج الأقليات، وتقليل الفجوة بين السكان. في أول الأمر كان عدد هؤلاء الرواد محدود، ثم ما لبث أن ازداد عددهم واشتد تطرفهم، وانضم إليهم الكبار. علي الجانب الآخر نجد "ميلادا"، أخت البطلة تمثل النموذج المضاد فكريا، فهي تعيش مع صديقها "ستاندا"، أحد المثقفين المعارضين للفكر الاشتراكي، الذين هم، من وجهة نظر بطلة الرواية، يدسون أنفهم في شئون المدينة، وما حولها، وينظرون إلي الآخرين من عل، من أبراجهم العاجية، فيفسدون حياة الآخرين، لأنهم لا يجيدون سوي التنظير، فيتحدثون ويتفلسفون، ويفسدون من حيث أرادوا الاصلاح.
تلفت الرواية إلي أن للحقيقة عدة وجوه، أي أننا يمكن أن نراها من زوايا عديدة، فما يراه أحدنا شيئا إيجابيا، جالبا للحرية، ربما يراه الاخر سلبيا، مثيرا للضيق، والقلق، والشعور بالفوضي. وعلي الرغم من أن أبطال الرواية مرتبطين بوحدة المكان والمصير، إلا انهم فاقدون القدرة علي التواصل، كل منهم يظل حبيس افكاره ومعتقداته الخاصة. تستعرض الكاتبة تلك الآراء المختلفة والمتعارضة من خلال افراد أسرة واحدة، تمثل في مجملها نموذجا حيا للمجتمع التشيكي المعاصر.
التشيك.. أرض الميعاد
تنتقل "أولجا" بطلة الرواية من أوكرانيا إلي بوهيميا (التشيك) هربا من الحرب، وبحثا عن فرصة عمل أفضل. هي قصة فتاة تعيش حياة قاسية وصعبة خارج موطنها. تتعامل القصة مع الصورة النمطية للأوكرانيين، وأصحاب العمل التشيك، والمنظمات الخيرية. هي ذلك الجنس الروائي الذي يسجل حياة العمالة الوافدة، التي تتمحور حياتها حول البحث عن لقمة العيش، وتأمين سبل العيش لأفراد الاسرة. يرسم العمل صورة الشخوص بطريقة ساخرة.
تقوم أولجا، بطلة الرواية، بدور الرابط الذي هو من ناحية ينقل صورة الحياة في اوكرانيا قبل رحيلها، كما يرسم من ناحية أخري صورة لحياة الوافدين الاوكرانيين إلي مجتمع العاصمة التشيكية براغ، وذلك من خلال المجموعة المحيطة بها من مواطني أوكرانيا. تأتي أولجا مع زوجها أوليخ إلي براغ بعد أن يتركا ابنتهما مارينا ذات ال 12 عاما من عمرها مع الجدة في بلدتهما الريفية، ثم يستقدمونها للعيش معهم بعد أن يستقر بهما المقام ببراغ. تحكي أولجا، التي لا تجسد الرواية صورتها كضحية لأشرار التشيك، ولكنها امرأة قررت بإرادتها الحرة أن تتحدي الظروف الصعبة التي أوجدها فيها القدر، عن المصاعب التي مرت بها في بداية إقامتها ببراغ، حيث اضطرت للعمل كخادمة، وكيف أنها بمرور الوقت بدأت تتأقلم مع البيئة الجديدة، وأتقنت اللغة التشيكية، وأصبحت قادرة علي التواصل والتعامل مع المواطنين التشيك، وكيف تمكنت من تأسيس وكالة للتعارف بين التشيكيات والأوكرانيين، وأخذت تستعرض تباعا تقلبات حياتها الشخصية. أثناء الحكاية علي لسان أولجا تتسلل الشخصيات التي تتعامل معها، وحكاياتها ومصائرها، كما تخرج من حيز الزمان والمكان لترجع بذكرياتها الي بلدها اوكرانيا، ليبدو الأمر في مجملة وكأنه لقطات أو صور من الحياة. تجسد الأوضاع الحالية للأقلية الاوكرانية في التشيك (حرائق تنشب من آن لآخر بمساكن الإيواء التي يعيشون فيها، عمليات النصب التي تعرض لها بعض الاوكرانيين علي يد مكاتب التوظيف التشيكية، الصراع بين العصابات الأوكرانية، وتلك النظرة الاستعلائية للتشيك حيال الأوكرانيين المقيمين في بلادهم).
وتأتي نهاية العمل لتمثل مفاجأة للقارئ، وذلك عندما يفر أوليخ زوج اولجا بشكل فجائي عائدا إلي أوكرانيا، مما يلقي بظلال الشك حول مصداقية الراوية، وبالتالي حول مدي الوثوق بالحكاية التي ترويها من الأساس. يعتمد السرد علي تقنية "الفلاش باك"، في صورة ذكريات البطلة التي تختزل فيها أحداث حياتها في السنوات القليلة الماضية، أي منذ وصولها إلي براغ، وهذه الذكريات لا ترتبط معا برابط زماني أو مكاني واحد، ولكنها لقطات تتجلي أمامها منفصلة كما لو كانت مجرد صور، أو قصاصات غير متصلة من حيث الموضوع، أو الزمن، أو المكان.
الرواية هنا تتناص مع الحكاية الشعبية التشيكية، والتي كان بطلها الجد الاكبر للتشيك، الذي وصل إلي الأراضي التشيكية في قديم الزمان هاربا من قومه، بعد أن ارتكب جريمة قتل في موطنه الأصلي صربيا، ولما خاف العقاب ترك وطنه مع نفر من أتباعه، وعندما وصل إلي جبل "رشيب" في التشيك، ترك قومه وصعد وحده الي قمة الجبل، يستطلع المكان، واذا به يفتن بجمال الأرض من تحته، فقال لأتباعه قولته الشهيرة، محفزا إياهم علي البقاء بتلك البقعة الجميلة من الأرض "تلك هي أرض الميعاد، التي طالما حلمنا بها وبحثنا عنها". ربما استدعت الكاتبة من ذاكرتها ذلك المشهد القديم لتقارن بين ما قدمته أرض التشيك في الماضي البعيد، باعتبارها الملجأ والملاذ، وأرض الطمأنينة، وبين الوضع الراهن، وذلك من خلال إبراز مدي معاناة الوافدين الاوكرانيين بحثا عن العمل ومن قبله الامان.
تحاول هولوفا هنا رسم صورة كاريكاتيرية للمجتمع التشيكي بعيون أوكرانية. الميزة الكبري في هذا العمل تكمن في اللغة التي كتبت بها، والمدهش هنا هو لغة البطلة التي أتقنت اللغة التشيكية بعد عدة سنوات من الإقامة بالتشيك، إلا من بعض الاخطاء الصرفية والنحوية، والتي تحرص الكاتبة علي إظهارها للتأكيد علي أصولها الأجنبية.
الهاوية
هي الرواية الأخير التي صدرت ل بيترا هولوفا" والتي أثارت ضجة واسعة في صفوف النقاد. البعض يضعها جنبا إلي جنب مع كتابها الأول والأكثر شهرة ونجاحا بين أعمالها "مذكرات جدتي"، بينما يراه البعض الاخر عملا يهوي بمؤلفته إلي أسفل درجات سلم النجاح الأدبي. أما الكاتبة فتقول إنه اكثر كتبها قربا من حياتها الشخصية. والحقيقة أنه لا يمكننا القول بأن الاديبة هنا تسجل سيرتها الذاتية، أو أن بطلة العمل تعد صورة ذاتية لها، وذلك لان مواصفات وطريقة حياة بطلة العمل الاخير لا تتطابق مع هولوفا في معظم الأمور، وإن تشاركتا نفس المهنة ذ الكتابة الأدبية.
"الهاوية" عمل ذو خصوصية شديدة، تتجاوز فيه الكاتبة بعض التابوهات التي ليس من السهل تجاوزها في العادة. تمس في هذه الرواية موضوعا ربما يتجنبه الكثيرون، وخاصة بذلك القدر من الصراحة الجامحة، التي لا تسمح للأعراف المجتمعية بالوقوف في طريقها، أو إعاقة تدفقها.
بطلة رواية هولوفا الأخيرة كاتبة مسنة، تخصصت في كتابة الروايات العاطفية. بعد أن كبر أبناؤها، صارت تقضي كل وقتها ما بين الكتابة، وشرب الخمر، والندم علي ما فات من عمرها. تقوم البطلة بدور الراوي، وهي ذلك النوع من الشخصيات التي ينقسم حولها القراء، فيتعاطف معها أحدهم، بينما يدينها الآخر، أو حتي تخلط مشاعر التعاطف والإدانة داخل الشخص نفسه، فهو يتأرجح بين التعاطف والغضب، ذلك أنها مميزة وذكية، بقدر ما هي قاسية وأنانية. من خلال مونولوج بطلة الرواية، التي بغض النظر عن طموحها الأول، أصبحت كاتبة ناجحة، نتعرف علي مدي معاناتها وهي تنتقل من أزمة كبيرة إلي أخري أكبر منها ذ انهيار علاقتها بزوجها، وانتهاء الأمر بينهما بالطلاق، علاقة الحب المختلط بالكراهية، أو علي الأقل بالإهمال الشديد، وعدم القدرة علي التواصل مع أبنائها، الذين لم يستطيعوا أن يغفروا لها حتي بعد أن كبروا. هنا في الصور المتشابكة المتتالية يبحث القارئ عن رابط منطقي يجمع بما بين يديه من أحداث، أو بالأحري قصاصات أو صور غير مترابطة، فلا يجده في البداية، ثم بالتدريج، وغالبا بصعوبة، كبيرة يصل إلي غايته، ويحصل علي إجابات علي أسئلة من قبيل: لماذا وصلت بطلة العمل الكاتبة المعروفة الي تلك الحالة، كيف تحولت الي امرأة صعب تحملها أو الحياة معها، ولا يمكن لأحد أن يقاوم رغباتها، ولماذا يصل بها الأمر حينما تنتابها نوبات الهستيريا المعتادة الي أن تصيح بالمارة في الشارع من شرفة حجرتها، وكأنها تسترجع بعضا مما مر بها في فترات سابقة من حياتها، وتقذف به الآخرين، لينتبهوا إلي أن هناك إنسانًا يعاني.
وتجدر الإشارة هنا إلي اختيار هولوفا لعنوان الرواية، وإلي أي مدي يرتبط أو يعبر عن الفكرة الأساسية للعمل. ما المقصود بكلمة "الهاوية"؟ ولماذا اختارتها المؤلفة عنوانا للعمل؟ عنوان الرواية يشير الي "ماتسوخا"، وهو اسم أعمق هاوية في جمهورية التشيك ووسط أوروبا (بعمق 138.5 متر)، وفيه دلالة واضحة علي عمق الهوة التي سقطت فيها بطلة الرواية، بعد ادمانها الخمر الذي أفسد عليها حياتها العائلية وأفقدها القدرة علي العطاء والتفاعل مع أقرب المقربين إليها.
تلعب اللغة في رواية الهاوية دور البطولة في نص لا يعتمد الاسترسال في السرد، وإنما ينتقل من صورة إلي أخري تليها من غير رابط منطقي بطريقة تيار الوعي. وتبعث الكاتبة في ثنايا العمل برسائل فكاهية، وتشن من خلاله هجوما شرسا علي أخلاق البرجوازية.
عوالم هولوفا السردية
يمكن أن نميز في كافة أعمال بيترا هولوفا اتجاهين واضحين، يظهران بشكل تبادلي أو متزامن في إنتاجها، الذي هو من ناحية سرد نثري مستلهم من بيئة أجنبية (مذكرات جدتي، وسيرك الذكريات، ومحطة التايغا)، من خلال التواصل بين الثقافات، ويسود في هذه القصص حكاية ما تلبث أن تتفتت إلي مجموعة من الحكايات البسيطة، والأحداث والذكريات، التي يربطها دائما رابط الاصل الواحد، العائلة الواحدة، أو العلاقة الزوجية أو العاطفية. ومن الموضوعات النمطية في هذا الإطار ندرج دور العادات القديمة، والأحداث الغريبة في عالمنا المعاصر، والفروق الفردية والثقافية بين الأفراد، مواقف وحياة الاجنبي في البيئة الغريبة (مذكرات جدتي، سيرك الذكريات، محطة التايغا). أما الاتجاه الثاني الغالب في أعمال هولوفا فهو يهمل التركيز علي الحدث، ويتخفف من معالجة أجزائه المختلفة، ويتطرق إلي العالم الداخلي لشخوص العمل (من وراء زجاج معتم، ثلاث حجرات بلاستيكية، حماة المصلحة العامة، التشيك أرض الميعاد، الهاوية). وبناء علي ما سبق فإن أهم الموضوعات التي عالجتها وسلطت عليها الضوء في أعمالها كانت الاسرة، والعلاقات بين أفراد الاسرة الواحدة، والفروق بين الاجيال، وجهات النظر المتعددة، وبشكل عام عالم المرأة المعاصرةذ آرائها، ومشاعرها، ومشاكلها. ويعد إنتاجها الأدبي بذلك جزءًا أصيلا من الأدب النسوي التشيكي المعاصر.
اللغة في مجملها واضحة بسيطة لا يكتنفها الغموض، تتراوح بين الفصحي البسيطة، والعامية المتداولة، والأقرب الي فئات الشعب المختلفة، وإن غلب عليها استعمال العامية. تستعير أحيانا تعبيرات وكلمات من لغات اجنبية تضفي علي العمل لمسة تؤكد علي محلية البيئة، بخاصة في الروايات التي تدور أحداثها في بيئات أجنبية (اللغة المنغولية، وكذلك الروسية دون أي إشارة داخل النص أو في الهامش مثلا إلي معانيها، والجدير بالذكر أن هذه التعبيرات والكلمات لا تؤثر سلبا أو تعيق التواصل مع موضوع الرواية -مذكرات جدتي، محطة التايغا).
أما الراوي، فأحيانا يكون الراوي العليم، فتكون الكاتبة هي الراوي الضمني، وأحيانًا تسلمه للضمير الأول، فيكون الراوي هو البطل، الذي غالبا ما يكون امرأة (معظم أبطال أعمالها من السيدات، ويحتل المونولوج الداخلي مساحة كبيرة من النص، ما يمكّن الروائية من التحليل العميق لشخصيات العمل، والتوغل في تفاصيل الشخصية، ووصف أدق المشاعر الانسانية). تستعرض الكاتبة في أعمالها دائما الحقيقة من زوايا متعددة الرؤية من خلال مواقف وآراء وقناعات أبطال، أو بالأحري بطلات أعمالها، وربما ينبع ذلك من تأثرها بتيار ما بعد الحداثة، الذي لا يؤمن بحقيقة واحدة ثابتة، جامدة، ويؤمن بأن للحقيقة أكثر من عنوان، وأنها في النهاية مسألة نسبية. كما يتجلي علي ما يبدو في كافة اعمالها تأثرها بدراسة نظريات علم الحضارات، وفكرة التواصل، والتنافر الحضاري والثقافي بين الأمم والأفراد.
تتبادل البيئة الأجنبية مع التشيكية المواقع في أعمال هولوفا (تدور أحداث الرواية الأولي "مذكرات جدتي" في منغوليا، وفي القصه الثانية "عبر زجاج معتم" تتخذ من براغ مسرحا لأحداثها، وينتقل موقع الأحداث في القصة الثالثة "سيرك الذكريات" إلي مدينة نيويورك، وهكذا).
وأخيرًا، حصدت هولوفا العديد من الجوائز الأدبية القيمة عن بعض أعمالها، فقد صعد نجمها منذ العمل الأول "مذكرات جدتي" (2002)، والتي حصلت عنها علي جائزة "ماغنيسيا ليتيرا" 2002، وحصلت نفس الرواية لقب كتاب العام في استطلاع للرأي أجرته صحيفة "ليدوفي نوفيني"التشيكية. وظل هذا العمل، علي الرغم من كونه أول عمل منشور لها، علامة بارزة بين إبداعاتها التالية، العمل الاكثر شهرة بين أعمال هولوفا، حتي أن كل عمل جديد أصدرته بعده كان يوضع في موضع المقارنة التلقائية به.
كما فازت عن روايتها "ثلاث حجرات بلاستيكية" (2006) بجائزة "يرشي اورتن" 2007. وفي عام 2008 حازت علي جائزة يوسف شكفوريتسكي عن روايتها "محطة التايغا" (2008).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.