سوزانا برابتسوفا كاتبة وروائية تشيكية، ولدت في براغ في 23 مارس عام 1959 لأبوين كليهما مؤرخ وناقد أدبي، وهما يرشي برابيتس وزينا تروخوفا. ولأسباب تتعلق بنشاط والدها السياسي، لم تتم تعليمها وعملت كأمينة مكتبة في جامعة براغ بعد حصولها علي البكالوريا. بعد ستة أشهر اضطرت إلي ترك العمل إلي وظيفة عاملة نظافة بأحد المستشفيات في الفترة من 1982-1988. ثم وضعت ابنتها الوحيدة وتفرغت لرعايتها. وفي عام 1989عملت لفترة قصيرة في وزارة الخارجية، ثم التحقت بالعمل كمحررة ببعض دور النشر التشيكية (تشيسكي سبيسوفاتل - هينيك)، وتعمل حاليًا بدار نشر جاراموند. تقدم برابتسوفا نموذجًا للأدباء الذين يستمدون قيمتهم الادبية من الجودة الفنية لإبداعهم، لا من كم الأعمال الأدبية المقدمة. صدر لها أربعة أعمال نثرية علي مدي ثلاثين عامًا، بخلاف أول أعمالها الذي لم يتسن لها نشره، حيث لم يكن مسموحًا نشر أعمالها قبل عام 1989، لكونها غير موالية للنظام الشيوعي الحاكم آنذاك، ولم يبق أمامها إلا أن تنشر إنتاجها الأدبي المحظور رسميًا في الخارج، أو توزعه في دائرة المقربين لها من القراء والفنانين والنقاد. القضية المحورية في أعمالها البحث عن الذات. تناقش الكاتبة قضية الانسان وعلاقته بالعالم من حوله، وقدرته علي تحقيق ذاته. في هذا الإطار يظهر الميل إلي دراسة تاريخ الأجداد والذاكرة الثقافية الجمعية في أعمال الأديبة كخطوة علي طريق فهم الذات، ومحاولة لتمكين أبطال أعمالها من التعرف علي موقعهم المحفوف بالمخاطر في هذا الكون. يتعلق الأمر هنا بأناس يعانون مشاكل حقيقية في التواصل، أناس فقدوا القدرة علي فهم بعضهم البعض، أو بالأحري لم تكن لديهم يومًا تلك القدرة علي فهم الآخر، وفشلوا في إيجاد شريك لإقامة حوار معه. يأخذ السرد شكل المعالجة الذاتية للشخصيات التي عادة ما تكون في حالة نفسية مرتبكة، ينتهي بها الحال أحيانًا إلي الإقامة في مؤسسات العلاج النفسي، والمصحات العقلية. هذه الحالة التي يظهر بها أبطال وبطلات أعمالها تجعل للنص شكلًا مختلفًا. يسيطر عليه تيار الوعي الذي يتميز بالترابط غير الوثيق للأفكار والتصورات. غالبا ما تعبر عن تلك الأفكار من خلال صور، واستعارات ورموز شعرية، تخفف من الطابع التأملي لبنية العمل. يختلط هنا مستويات الزمان المختلفة، كما تمتزج الأحلام والتصورات بعناصر الواقع المادي، تندمج الخطوط السردية للنص وتتفاعل. تتحقق وحدة النص متشظي الأفكار من خلال الشخوص، واسترجاع نفس الموتيفة في عدة مواضع. موتيفات لا ترتبط فقط بمسار الحدث، بل بالذاكرة الحضارية أيضًا، فكثيرًا ما تظهر في ثنايا العمل إحالات إلي أعمال أدبية أخري، وأساطير، وحكايات شعبية معروفة. يعد إنتاج برابتسوفا الأدبي جزءًا أصيلًا من الأدب النسوي التشيكي المعاصر، من حيث الموضوعات التي يعالجها، واختيار الشخوص، ومعظمهن من النساء وإن اختلفت أعمارهن، ما بين المراهقة، ومنتصف العمر. العلاقة الغالبة في أعمالها هي علاقة الأم بابنتها. أما أبطالها من الذكور فعادة ما يبقون في الظل، إلا من بعض الاستثناءات (علي سبيل المثال إيما بودوبا، بطل رواية "لصوصية"). ينتمي إبداعها إلي أدب السيرة الذاتية الذي غالبًا ما يسجل مشاهد مختلفة الحجم من حياة الكاتب، ويعطي أيضًا صورة للمجتمع الذي ينتمي إليه، ويعتبر جزءاً منه. كتبت برابتسوفا باكورة إنتاجها الأدبي عام 1981 بعنوان "بوابة الخِراف" وذلك في بضع نسخ علي الآلة الكاتبة، ظهر العمل في دائرة المقربين منها، كما نشر فصل واحد منه في مجلة (ليستي) التي تصدر في الخارج عام 1988، وهي مجلة نشرت فيها بعض قصائدها من قبل. ثم جاءت "بعيدًا عن الشجرة"، التي ظهرت عام 1984، ثم نشرت بدار انديكس عام 1987، وهي دار نشر تشيكية تأسست في ألمانيا لنشر أدب المنفي التشيكي، ونشر في التشيك عام 1991 بعد سقوط النظام الشيوعي في دار "تشيسكي سبيسوفاتل". "بعيدًا عن الشجرة" رواية تجريبية تدور حول الأزمات النفسية التي مر بها جيل السبعينيات. لسان حال الجيل يتمثل في شخصية بطلة القصة "فيرا" ذات العشرين عامًا. تجري الأحداث في ستة فصول بعناوين مُلتبِسَة، تحمل في طياتها أكثر من معني، يربطها جميعًا موتيفة البحث عن الذات، والشعور العميق بالاغتراب. تتناول مشاعر الكآبة التي تنتاب مراهقة مرهفة الحس، نتيجة الأحوال السائدة في فترة السبعينيات والثمانينيات. تتضح في العمل علاقة البطلة المعقدة بجيل الآباء، ومحاولاتها المستمرة والفاشلة في التعرف علي ذاتها، وفهم وإدراك ماهية جيلها، في مواجهة الضغوط المجتمعية المفروضة في تلك الآونة. هكذا تهرع إلي عالمها الداخلي في محاولة لاكتشاف الذات، وينتهي بها الحال في مستشفي الأمراض النفسية. وبمرور الزمن تتحرر من الاغلال والقيود، عبر تجديد وتقوية علاقة الترابط بين الأجيال وعبر إفراغ طاقاتها في شكل ابداع فني. في الفقرات الختامية للعمل يسود الإحساس بالتهديد، المتجسد في صورة فيضان يغرق مدينة براغ، باعتبارها رمزاً لتاريخ الأمة التشيكية. وعلي الرغم من هيمنة أسلوب تيار الوعي الذي يتشبث بقوانين المنطق، فإن فصول الكتاب المختلفة تمثل، من حيث الشكل والمضمون، وحدات مكثفة. في 1995 صدر لها "لصوصية". تلح الرواية علي الموتيفة الرئيسية للعمل السابق "بعيدًا عن الشجرة" مرة أخري. إنه المزج بين عوالم الأضداد: الفردي والجماعي، الشخصي والقومي، الشباب والكبار. يدور الحدث في خطين رئيسيين: الأول يروي قصة إيمان بودوبا الذي يصل دار للرعاية النفسية بعد تعرضه للضرب علي أيدي رجال الامن الوطني في 17 نوفمبر 1989 بمنطقة "نارودني ترشيدا". يتمكن بعد عدة أعوام من الفرار من الدار، ويحاول، بما تبقي له من عقل أو بما استقر في تلك البقايا من أشلاء الذكريات، أن يؤسس لحياة جديدة. المسار الثاني للحدث يتمثل في "هانا ماتيي"، امرأة في الاربعين من عمرها، تعلق بمصعد إحدي البنايات بعد تعطله، فتصاب بهستيريا لاعتقادها بنهاية حلمها، وانهيار إمكانية أن تمنح هذا العالم طفلًا قبل أن تغادره، فتبدأ من خلال مونولوج داخلي في إلقاء اللوم علي زوجها، وهي لا تعلم أنها كانت في تلك اللحظة تحمل منه في أحشائها طفلًا بالفعل. لم تتخل برابتسوفا عن الخط الرئيسي في كل أعمالها حتي في روايتها الثالثة، والتي صدرت عام 2000 بعنوان "عام اللؤلؤ"، إذ تتناول موضوع العلاقات المثلية، والمتمثل هنا في القوة الغامضة التي حالت دون التواصل المفتوح والوجود الحر. يعد ظهور هذه الرواية بمثابة حدث فني هام في تاريخ الأدب التشيكي، حالة فنية مختلفة فتحت الباب لموضوع شبه مسكوت عنه، حيث تتناول الرواية بقدر غير مسبوق من الصراحة والانفتاح أحد التابوهات، ما أثار فضول القراء ووسائل الإعلام، التي لم يبد بعضها اهتماما ملموسا بإبداعات سابقة لبرابتسوفا. وصارت الرواية الأكثر مبيعًا في عام 2000. تعكس الرواية فصلًا من حياة الكاتبة التي مرت بتجربة مشابهة لقصة البطلة، وتدور حول لوتسيا، صحفية في الاربعينيات، تقوم بعمل معالجة صحفية لقضية المثليات، فتصاب بصدمة عندما تقف علي حقيقة أنها شخصيا لديها نفس الميول الجنسية، وذلك عندما التقت ماجدة، الشابة الفاتنة القادمة من الريف بحثًا عن فرصة عمل في مدينة براغ فأغرمت بها، ومن ثم انقلبت حياتها رأسًا علي عقب.. تعرضت برابتسوفا لصمت كتابي استمر 12 عامًا بعد روايتها الأكثر مبيعًا، وعادت برواية بعنوان "السقوف"، والتي ستصدر ترجمتها في دار العربي قريبًا بعنوان "ديتوكس"، وفيها تتناول تجربة سيدة مطلقة "ايما تشيرنا" داخل مصحة للعلاج النفسي، حيث يصبح ال "ديتوكس" هو مركز الثقل في العلاقات الإنسانية، ومصدر أسئلة وأجوبة تتعلق بالأزمات الحياتية، التي يتسلل إليها العالم الخارجي أحيانًا كعنصر تخفيف وتهدئة، وأحيانًا أخري كعنصر تأجيج ومصدر قلق. ينطلق الموضوع من السقوف والجدران، كما لو كانت منفتحة علي فضاء مكاني غامض، كما لو كانت وسيلة لاستكشاف قدرة الانسان من عدمها علي الخروج من الذات، والاعتراف بتفوق الآخر. وبنفس القدر من الجدية ينتقد المجتمع، الذي يطالب أفراده بالنجاح في إدارة حوار متعدد المعاني مع عالم متعدد الاشكال. يفتقر العمل إلي وجود خط درامي مسترسل ومتماسك، بل إن الكاتبة وبدون سابق إنذار تتنقل بين عالم الواقع وعالم الخيال، والأحلام. أحيانًا تحكي بضمير المتكلم علي لسان البطلة، وأحيانًا أخري بضمير الغائب، تضع الكلام علي لسان إيما في حالات التنبه والاستفاقة، بينما تقوم الكاتبة بدور الراوي، عندما تنتاب بطلة قصتها نوبات غياب الوعي أو تستسلم للهلاوس. يتسع العمل ليتناول بقية نزيلات المصحة، بالتحديد عنبر الادمان، ويترتب علي ذلك تنوع واختلاف مستوي اللغة في النص، من حيث كونه ينتقل من الخشونة والسوقية في الحوار علي لسان نزيلات المصحة إلي لغة الراوي الراقية المنمقة ذات الطابع الشعري والموسيقية، والصور الخيالية والاستعارات التي تتراوح بين الصور المنسابة الناعمة والصارخة.