"علي طريق الحليب أو اللبن" عنوان غريب لفيلم مثير لمخرج متميز جداً من صربيا. ويعتبر الأكثر إثارة للجدل في هذه المنطقة من العالم "البلقان".. أفلامه السابقة علي هذا الفيلم أعمال مهمة وكاشفة وأشهرها فيلم "تحت الأرض" الذي يتناول تاريخ يوغسلافيا منذ الحرب العالمية الثانية وحتي الصراعات الدموية المروعة أبان حقبة التسعينيات المعروفة "حرب البوسنة".. من أفلامه أيضا "حين كان بابا في رحلة عمل". و"زمن الغجر". و"قطة سوداء قطة بيضاء". من الواضح أنني أشير إلي المخرج الصربي أمير كوستاريكا.. "مواليد 1954" الحائز علي السعفة الذهبية مرتين في عام 1985. 1995 وهو من أشهر مخرجي العالم الآن وقد شاع بين المهتمين بالسينما في منطقتنا بأنه سينمائي يوغسلافي مسلم. والحقيقة التي يؤكدها بنفسه أنه من أسرة علمانية ووالده لم يكن مؤمنا بالدين ولكنه أمير اعتنق المسيحية رسمياً عام 2005 وأصبح مسيحياً أرثوذكسياً وفي تبريره قال: "نحن مسلمون من 250 سنة فقط. وقبل ذلك كنا مسيحيين أرثوذكس وقبل ذلك وحتي الأعماق نحن صربيون. وهو من الناحية السياسية يعتبر من الداعمين بقوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد حصل علي جوائز من الدرجة الأولي من موسكو وأهمها وسام الصداقة من فلاديمير بوتين. ومنذ أن اشتغل بالإخراج وأفلامه تثير الكثير من الجدل في الداخل والخارج. فهو مشغول بالتاريخ والحرب. والحب يستحضرهم بأسلوبه المتفرد المعجون بالفنتازيا والتحليق في الخيال. فهو إلي جانب الإخراج مؤلف موسيقي وسيناريست وممثل وفنان حتي النخاع وقد يختلف حول أفكاره وأعماله كثيرون. ولكن لن يختلف عاشق للسينما علي إنفراده بلغة جمالية سينمائية مذهلة وخالصة أقرب إلي السيمفونية البصرية السمعية المفعمة بالخيال والغرابة واللامعقول. وحيث لا حدود بين الممكن والمستحيل فهي ليست "واقعية سحرية" كما صنفها النقاد. لانها تتجاوز "التصنيف" وفيلمه الأخير الذي عرضه مهرجان "فينسيا" "2016" ورفضه مهرجان "كان" بسبب "صداقة المخرج مع بوتين" حسب تصريح كوستاريكا نفسه ومن حسن حظنا أنه كان من بين الأفلام المعروضة في مهرجان القاهرة الدولي الأخير ويعتبر بين حسناته القليلة فهذا الفيلم بعنوانه "علي طريق اللبن أو الحليب" يفتح الشهية للكلام عنه ويوفر فرصة لتقديم مخرجه الذي ربما لا يعرفه من جماهير السينما في مصر غير المهتمين "بالفن السابع". في مقدمة الفيلم نقرأ أنه يتضمن ثلاث قصص واقعية مع كثير من الفنتازيا وبعد النهاية تجد أنه يقدم فيضاناً من صور الخيال الذي يجرف في اندفاعاته القصص الواقعية فتتوه ملامحها وتبدو أشبه بالأساطير الغائمة. الأحداث والشخصيات لا تقتصر علي رجل وامرأتين وإنما علي حيوانات وطيور و"ساعة" عتيقة يتحرك بندولها العملاق ويصيب من يصيبه"!" وأيصا بشر صديق البطل يمتطي كتف صاحبه ويحميه حين اللزوم و"فيلق" من الأوز الأبيض يسبح في دم الخنازير المذبوحة ويجتذب الذباب وثعبان عملاق يشرب اللبن وقطيع خرفان فوق التلال تنفجر وتطير أثناء سيرها فوق حقل ألغام وأمام هذه المخلوقات وخلفها طبيعة خلابة تكتسي في فصل الربيع بألوان تبهج العين وتدعوها للتجوال. ولكننا في زمن الحرب والجنود المدججين بالسلاح يظهرون هنا وهناك يطاردون الأحبة الهاربين من رشاشات المدافع وأصوات الانفجارات ويزرعون الموت للجميع ولا نجاة إلا لمن في استطاعتهم الطيران والزوغان واجتناب الالغام بحدسهم وقلوبهم وليس عبر بصرهم أو بصيرتهم. فلا قانون يحكم هذا الكون المحكوم بوحشية البشر وسفاكو الدماء. ولا قانون للجاذبية يمنع البشر من التحليق في الفضاء هرباً من رصاص طائش إلا قانون الحب. ومن الواضح أن الحرب البوسنية وما شهدته من بشاعات بشرية مفرطة في وحشيتها وانحاطها وتجردها من أي قيمة إنسانية أخلاقية دينية. من الواضح أنها تركت علامات غائرة لمن عايشوها أو اقتربوا من محيطها وما أفرزته من وحوش آدمية تتضاءل أمام ممارستها حيوانات ما قبل التاريخ. وبرغم هذه الخلفية الحاضرة في الذهنية فاننا أمام عمل مبهج وجميل ومتجانس مع اختلاف مفرداته وشخصياته. في مركز الأهتمام نري ذلك "اللبان" الذي يقطع الطريق يوميا بحماره وصديقه "النسر" الذكي يعيونه الحادة التي تطل علي المشهد الطبيعي بتلاله وجباله ووديانه وسكانه. اللبان يقطع الطريق بزيه العسكري حاملاً "أقساط" اللبن الطازج إلي حيث يقع الجنود المقاتلين علي الحدود يؤدي الدور مخرج الفيلم أمير كوستاريكا بتكوينه الذكوري الخشن وملامحه الحادة وتركيبته الجذابة.. فالمسافة بين القرية حيث البقر الحلوب وبين الحدود حيث ثكنات الجنود ليست قصيرة وفي ذات يوم تهبط علي القرية امرأة فاتنة تلعب دورها الممثلة الايطالية "مونيكا بولتشي" التي يقدمها الفيلم باعتبارها "الأنثي" النموذجية التي تحلب البقر وتصنع الطعام. وتجلب المياه من البئر. أو أنها الأنثي "المشتهاه" ومن يملك مقاومتها؟؟ وفي القرية أنثي أخري تمتلك مهارات فائقة كراقصة ورياضية ومطربة اسمها "فيلينا" والأهم كعاشقة تخطط للزواج من "اللبان" كوستا وتستعين بمن يرسم خطة تزويج الفاتنة الغريبة والتي لا تحمل اسماً محدداً وإنما يشار إليها بكلمة "برايد" وتعني "العروس" تزويجها من شقيقها المحارب العائد علي أن يتم العرس المشترك في حفل واحد. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي المرأة الأولي ابنة القرية. وذلك لأن السهم كان قد نفذ إلي قلب "اللبان" "كوستا" الذي وقع في غرام "برايد" من أول نظرة ولكن "برايد" نفسها هاربة من "غرام" قديم ومن عاشق قتل زوجته من أجلها ودخل السجن وهو علي وشك الخروج. ومن ثم أصبح هذا الرجل تهديداً لقصة الحب الوليدة والعاشق القديم جنرال ويحمل الجنسية البريطانية وكان ضمن قوات حفظ السلام قبل دخوله السجن وأمام هذا الموقف المعقد يقرر العاشقان "كوستا وبرايد" الهروب من مطاردة مزدوجة تستدعي قطع المسافات وسط طبيعة ليست منبسطة ومعوقات تفرضها الصراعات الدموية والحرب الدائرة. ولكن الحب لا يعرف المستحيل. مشاهد الهروب تفتح المجال أمام صانع الفيلم والمصور المبدع للتحليق في خيال يصعب تخيله لولا قوة الصورة وتكويناتها التشكيلية الخلابة والمؤثرات الصوتية الجامحة والاستخدام المسرف لامكانيات الكمبيوتر التي لم تعد تقف أمام قدرته علي انتاج كل ما يجول في خيال المبدع من مهارات خارقة وشخصيات ناطقة من غير البشر ومؤثرات وتنفيذ مواقف العاشقين يبحثان عن نجاة وسط ظروف تبدو فيها النجاة مستحيلة. وفي وجود طائرات حربية وميليشيات متقاتلة وطرق صاعدة وهابطة وسط الجبال. امكانيات السينما هنا في أوج قوتها حيث الصورة البليغة الناطقة بلغة جمالية بديعة. والمونتاج الذي يؤلف بين العناصر التي لا يمكن التوليف بينها فيبدو وكأن الفيلم قد "قد" من نسيج واحد أضيف هنا الأداء الفتنازي لممثلين بمهارات فائقة مثل "مونيكا بولوتشي" واليوغسلافية سلوبودا ميكالوفيتش التي لعبت شخصية "فيللينا". كلمات مع الله في نهاية فيلم "علي طريق الحليب" يتحول "كوستا" اللبان إلي "راهب" يتأمل ويراجع رحلة حياته الماضية التي تابعناها. والتي بدأت ابان سنوات الحرب وكان هو نفسه شاهداً علي وحشية البشر. ثم سنوات الحب المبهجة بعد أن التقي بامرأة علي استعداد أن تهبه حياتها. وتقطع معه طريقاً محفوفاً بالمخاطر. ثم هذه المرحلة الأخيرة التي يصل ما بينه وبين الرب في نهاية تنتصر للعلاقة مع الله. لقد أختير فيلم أمير كوستاريكا الذي أخرجه وقام ببطولته عن سيناريو من تأليفه ضمن أفلام المسابقة الرسمية في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي الثالث والسبعين "31 أغسطس 10 سبتمبر 2016" ولم يحقق الفوز ولكنه أثار قدراً كبيراً من الجدل مثل معظم أفلامه.