يوم السبت الماضي.. وفي آخر أيام العام الهجري.. رحلت عن عالمنا الأديبة الباحثة الناقدة.. المفكرة المناضلة.. د. نعمات أحمد فؤاد.. إحدي القامات المصرية الشامخة.. التي اقترن اسمها بالحرب علي الفساد والمفسدين.. فسجل بحروف من نور في سجل الشرف والكرامة.. حتي قيل عنها بصدق: "لو كانت النساء مثل هذي.. لفضلت النساء علي الرجال". ربما لم يتعرف شباب الجيل الحالي جيدا علي الدكتورة نعمات أحمد فؤاد.. وربما لم يسمعوا أصلا عن هذا الاسم من قبل.. وهم معذورون في ذلك.. فالنماذج التي تقدم لهم في الإعلام وتستحوذ علي الأضواء لا علاقة لها بالنموذج الذي تمثله د. نعمات التي غيبها المرض لفترة طويلة عن معارك مصر الكبري.. وقد كانت هذه المعارك في أمس الحاجة إلي قلمها الشجاع وفكرها الحر المستنير وضميرها الحي. كانت - رحمها الله - نموذجا وطنيا رائعا في التصدي للفساد دفاعا عن مصر وحضارتها وشعبها.. وواجهت كثيرا من المؤامرات التي استهدفت تدنيس أرض مصر.. وبيعها بالقطعة.. وتشويه الوعي الشعبي وتغيير معالم الشخصية المصرية.. وقد تحدثت عن هذه المعارك بالتفصيل في كتابها الرائع "صناعة الجهل". تقول عن نفسها: "لم أختر يوما معركتي بل كانت المعارك هي التي تختارني". كانت البداية في منتصف السبعينيات عندما نشرت إحدي المجلات الكندية عن بيع عشرة آلاف فدان في هضبة الأهرامات لمستثمر كندي مقابل 2 مليون دولار ليقيم عليها بالمشاركة مع شركة مصر لتنمية السياحة عددا من الفيلات والقصور.. فكتبت مقالا في الأهرام في يوليو 1977 أطلقت من خلاله صيحة لإنقاذ منطقة الأهرامات التاريخية من هذا العبث.. باعتبار المشروع عدوانا علي التراث الإنساني والحضارة المصرية. وبعد سلسلة من المقالات حول الموضوع ذاته تعرضت للتهديد والوعيد وأيضا للرشوة والإغراء.. عرضوا منحها فيلا وسط الكبار في المشروع مقابل صمتها.. لكنها رفضت واستمرت في حملتها بعنوان "ارفعوا أيديكم عن هضبة الأهرام" مؤكدة أن الهضبة ليست ملكا للوزارة ولا للشركة ولا للنظام.. ودخلت في مساجلات ونزاعات قضائية.. لكنها نجحت في حشد المثقفين والرأي العام ومجلس الشعب ضد المشروع.. وفي مطلع الثمانينات صدر قرار رئاسي بوقف المشروع نهائيا. ثم كانت معركتها الثانية عندما تسرب خبر عن توقيع بروتوكول اتفاقية بين مصر والنمسا عام 1978 يقضي بدفن النفايات الذرية النمساوية في صحراء مصر الشرقية.. فتصدت لهذه الاتفاقية بالمقالات والمحاضرات بالتعاون مع الدكتور حامد ربيع الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.. ورغم محاولات النفي والتمويه والتضليل الرسمية إلا أن الرأي العام في النمسا وقف إلي جوارها.. ومارس ضغطا هائلا علي حكومته لإلغاء الاتفاقية. وزارها سفير النمسابالقاهرة في منزلها مقدما اعتذار بلاده.. ومؤكدا عدم المضي قدما في المشروع. وفي عصر مبارك خاضت عدة معارك من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح.. تأسيسا علي القاعدة التي تقول إن من لم يملك دقيقه لا يملك سيادته علي أرضه.. كما قادت معركة لمنع المساس بمياه النيل ومنع وصول قطرة واحدة منه لإسرائيل.. وخاضت معركة أخري ضد هدم قبة الحسين.. وكانت معركتها الكبري ضد فاروق حسني وزير الثقافة اعتراضا علي ما يقيمه من معارض للآثار المصرية بالخارج.. وما يتطلبه ذلك من خروج قطع أثرية أصلية نادرة إلي مختلف الدول مما يعرضها للخطر.. فكتبت العديد من المقالات تطالب بالحفاظ علي آثارنا من الإهمال والضياع وفوضي المعارض بالخارج والهدايا الأثرية التي تقدم للمحاسيب.. فلا توجد دولة في العالم تفعل في آثارها وحضارتها ما نفعله مقابل حفنة من الجنيهات.. من أراد أن يشاهد آثارنا فليأت إليها. وهكذا كانت د. نعمات أحمد فواد سدا منيعا أمام استباحة آثارنا المصرية القديمة والإسلامية.. وعمليات النهب المنظم والإهداء.. وخاضت معارك عديدة لجمع التراث.. وأعدت قائمة بالآثار التي نهبتها إسرائيل من سيناء وقدمتها إلي اللجنة الدائمة للآثار بوزارة الخارجية قبل التفاوض علي استرجاع الآثار.. وغير ذلك من القضايا الوطنية المهمة. رحمك الله رحمة واسعة يا بنت النيل.. يا ضمير مصر الحي الذي لا يموت.