من السهل أن ندبج مقالات المديح في ثورة يوليو 1952. ونتغني بإنجازاتها الكبيرة. التي نحفظها عن ظهر قلب. من كثرة تكرارها.. ومَن نسي. فليس عليه إلا أن ينقل بعض فقرات من كتاب التاريخ المقرر علي أبنائنا التلاميذ في المدارس. لكن من الصعب. مع كونه الأكثر فائدة. هو أن نعمل عقلنا بالتفكير في السلبيات والانكسارات والإحباطات التي عرقلت مسيرة الثورة حتي وصل بنا الأمر إلي ما نحن عليه اليوم.. شريطة ألا يكون ذلك بهدف التشهير والإدانة.. وإنما بهدف الفهم والاستفادة واستخلاص العبر.. حتي نتجنب هذه السلبيات فيما هو قادم من أيامنا.. فمن لم يستفد من دروس ماضيه. لا يجيد رسم مستقبله. لديَّ عشرات الأسباب التي تجعلني أشيد بالثورة وإنجازاتها ورجالاتها.. والتوقف كثيراً أمام إعلان الجمهورية. والإصلاح الزراعي. وقوانين يوليو الاشتراكية. وبناء السد العالي. وتأميم قناة السويس. ومجانية التعليم. وبناء المصانع الكبري.. ولديَّ عشرات الأسباب التي تجعلني أتوقف أمام انتكاسات الثورة. واضطراب مسيرتها. وتناقض أهدافها.. من محمد نجيب. إلي جمال عبدالناصر. إلي أنور السادات.. ثم إلي مبارك. كان حكم نجيب بتوجهاته وشعاراته مختلفاً عن حكم عبدالناصر بتوجهاته وشعاراته.. وكان حكم السادات مختلفاً تماماً عن الاثنين.. بينما كان حكم مبارك في كثير من جوانبه امتداداً لحكم السادات. رغم العداء الظاهر بين أسرتي الرئيسين.. ولذلك أظن أنه من التعسف أن نضع سنوات الثورة الستين في سلة واحدة. ونكتب عليها "تاريخ الثورة".. فقد اختلفت الأهداف والسياسات باختلاف الرؤساء.. ولم تستمر الثورة في خطوط مستقيمة.. وإنما كان لكل رئيس خطوطه الخاصة التي تعكس تناقضاً صارخاً. حتي قال الناس: إن السادات يسير علي خُطَي عبدالناصر بأستيكة. من ثَمَّ فإن تاريخ الثورة. إذا اعتبرناه ممتداً علي مدي الستين عاماً الماضية. لم يكن إلا تاريخ الرؤساء.. وهذه هي السمة الأساسية لتاريخ مصر فيما بعد يوليو ..1952 وقد كان السادات واضحاً في ذلك عندما أعلن في 15 مايو عام 1971. ثورة تصحيح لتصويب مسار الثورة الأم. وقدَّم رجال عبدالناصر للمحاكمة وسجنهم. فيما اعتبره البعض انقلاباً علي الثورة وعلي عبدالناصر.. وبعد أكتوبر 1973. أعلن انتهاء الشرعية الثورية. وبدء الشرعية الدستورية.. وانتهاء دور رجال يوليو. ليبدأ دور رجال نصر أكتوبر. وبدون الانتقاص من الإيجابيات والإنجازات أستطيع أن أضع أهم سلبيات مسيرة ثورة يوليو في النقاط التالية: * الدوران حول شخصية الزعيم. القائد. البطل. المنقذ. الملهم. المؤمن. بأكثر من الدوران حول الثورة كأهداف ومبادئ. أو الدوران حول مصلحة الوطن والشعب. ورغم الكلام الكثير الذي قيل عن الشعب الرائد والمعلم. إلا أن الواقع كان يقول العكس تماماً.. حيث الزعيم هو الرائد وهو المعلم. وهو أبو الشعب وباني مجده. * يرتبط بالنقطة السابقة مباشرة أن الاهتمام لم يتجه إلي بناء المؤسسات التي تحافظ علي الإنجازات وتطويرها. بقدر الاهتمام بالحشد الشعبي لتأييد الزعيم ومباركة خطواته وأفكاره.. ومن هنا كان الزعيم هو الوطن. والوطن هو الزعيم.. بعكس تجربة الهند الناجحة في بناء المؤسسات التي تضمن استمرار نجاح المسيرة التي بدأها غاندي. ثم نهرو العظيم. ثم أنديرا غاندي. وإلي اليوم.. يتعدد الرؤساء والزعماء. لكن خطوط التجربة تمتد مستقيمة ومتكاملة. * الاستغناء بأهل الثقة عن أهل الخبرة.. وحرمان الوطن من خيرة أبنائه لأنهم ربما ليسوا علي وفاق كامل مع الزعيم. * الاكتفاء بالشعارات الرنانة عن بذل الجهد والعمل الدءوب.. وتصور أن مجرد إطلاق الشعارات والأغنيات حول حقوق العمال والفلاحين. والصحراء التي آخضرت بمجرد المرور عليها. يعني أن هذه الأهداف العظيمة قد تحققت في أرض الواقع. * إهمال الديمقراطية واعتبارها ترفاً زائداً عن الحاجة.. والاكتفاء ببناء ديكوراتها دون تفعيلها في حياة الناس.. والاستخفاف بالرأي الآخر.. وتغييب الوعي عن ضرورات التعددية السياسية. وتداول السلطة.. وكان من نتيجة ذلك ضياع العدالة الاجتماعية. واستشراء الفساد وإهدار الكرامة الإنسانية. وغياب مبدأ تكافؤ الفرص.. وهو ما استدعي قيام ثورة أخري.. نرجو أن تصل بنا إلي بر الأمان.