ما كان سبباً لحيرتي وقلقي منذ ثلاث سنوات وكان محور رسالتي إليك آنذاك لم يعد له وجود الآن وإن حل محله وحشة كبيرة وحزن يسكن القلب فأنا صاحبة ¢طاحونة النسيان¢ التي تكلمت فيها عن أمي الحبيبة وكيف كانت متميزة في كل شئ.. تقدس العمل والعلم والنظام وتعشق مهنتها كمربية أجيال وهوايتها في حياكة الملابس بأرقي الموديلات وفوق هذا نجاحها في أداء دور الأم والأب معي بعد رحيل أبي مبكراً وحرصها علي أن أتفوق دراسياً. وأتميز مثلها. فتخرجت في الجامعة. وحصلت علي الوظيفة المناسبة... والزوج المناسب. حدثتك آنذاك عن كيف فعلت بها أمراض الشيخوخة حين أصابها الزهايمر ليعصف بذاكرتها. ويدخلها في طاحونة النسيان... وحين لزمت مكانها تحت وطأة الشلل الجزئي. وكانت المشكلة ليست الجمع بين رعايتها وانتظامي في وظيفتي الرقابية التي تحتاج للمتابعة الجادة والانتباه. وإنما في كيفية الجمع بين رعاية والدتي ورعاية خالي الذي يعيش وحيداً بلا زوجة أو ولد ويعاني مثلها من أمراض الشيخوخة. وليس هناك من يسأل عنه سواي أنا وزوجي. كانت هذه مشكلتي التي حدثتك عنها حين بدأت في التفكير في إيداع خالي إحدي دار المسنين التي تحسن رعاية نزلائها وأطمئن عليه فيها... وخوفي من مصارحته وقتها بهذا الأمر حتي لايتألم أو يشعر بأنه أصبح عليّ عالة خاصة بعد أن أصبحت عصبية وازداد انفعالي لأتفه الأمور نتيجة لكل هذه الضغوط التي اجتمعت علي مرة واحدة. في الحقيقة. جاء ردك علي رسالتي آنذاك ليحفزني علي مصارحة خالي بالخطوة التي عزمت علي اتخاذها بإيداعه دار المسنين. وكم سعدت بترحيبه بالقرار وتفهمه لدوافعي. وحثه لي بسرعة التنفيذ. دارت الأيام. واشتد المرض علي أمي ولم يمنعني ذلك من اختلاس الأوقات لزيارة خالي بالتناوب مع زوجي والاطمئنان عليه وتلبية احتياجاته. حتي جاءت اللحظة المكتوبة لتفارق أمي الحياة. وتفارق السعادة بعدها أيامي. إذ تألم خالي واستبد به الحزن حين تلقي خبر وفاتها. وأخذت أواسيه وأخبرته بأنني لن أتركه في دار المسنين بعد اليوم. ليعيش معي أنا وزوجي. فرمقني بنظرة حزينة وكأنه يستشعر أمراً ما..!! انتكست حالة خالي بسرعة مفاجئة بعد وفاة أخته. وحاولت بكل ما أستطيع توفير رعاية طبية فائقة له. إلا أن الأطباء أكدوا أنه لا داعي للقلق فقد تجاوز الأزمة بفضل الله تعالي. ولم تمض أيام قليلة إلا وقد جاءتني مكالمة من دار المسنين التي يقيم فيها يخبرونني بوفاة خالي ويطالبونني بالحضور لإنهاء الإجراءات واستلام جثمانه. ... كان رحيل خالي بعد أمي بهذه السرعة صدمة شديدة لم أكن أتوقعها رغم إيماني ويقيني أنهما راحلان لامحالة وأن لكل أجل كتاب. أصبحت أسيرة الشعور بالتقصير في حق خالي. وأدركت أنه ليس بحساباتنا أبداً تسير الأمور ولكنها بمشيئة الله سبحانه وتعالي. لقد كنت أتمني أن أعوضه عن تلك الفترة التي أضطررت أن أتركه في دار المسنين. ولكن قد فات الأوان ولم يعد بمقدوري أن أتدارك ما مضي. أدعو الله أن يرحمه ويجعل عذابات مرضه وشقاء الوحدة التي عاني منها تكفيراً له... وأتمني أن يغفر لي تقصيري وانشغالي عنه في لحظاته الأخيرة في الحياة... آسفة ياخالي. نورا - البحيرة المحررة : كل شيء في دنيانا يسير بمقادير. وفقاً للمشيئة الإلهية وما علينا ياعزيزتي سوي إخلاص النية والأخذ بالأسباب. وألا نصعد الجبل قبل الوصول إليه. فالنتائج لايمكننا القطع أو الجزم بها. فالأمر كله لله. فهو سبحانه الذي يقدر الخير والرحمات لعباده. فأراد أن يتخفف خالك من آلام المرض وعذاباته. ولايطول معه أكثر من ذلك. وأراد لك أن تتعافي مما أرهقك وأربك حياتك لمدة ليست قصيرة. وما قمت به جزاؤه عند الله سبحانه وتعالي. ولا تنساقي وراء الوساوس والأحزان. فأنت لم تقصري في حق والدتك أو حق خالك رحمها الله. ولم يكن في استطاعتك غير ما قمت به. ورسالتك الأولي لنا تشهد علي حرصك علي رعاية خالك بأقصي ما تملكين ولكن لم يكن أمامك وسيلة سوي الاستعانة بدار المسنين التي اخترتها له بعناية. نعم هناك الكثير من الأمنيات والأحلام التي نفكر فيها ونمني أنفسنا بها كتعويض الاباء والأمهات عن سنوات تعبهم ومعاناتهم من أجلنا. أو الحلم برد الجميل لكل من وقف معنا أو أسدي إلينا معروفاً ولكن العمر لا يسمح دائماً بتحقيق الأماني والأحلام. بالإضافة إلي أن الآباء لاينتظرون ثمناً لتربية أبنائهم. ومن يقدم معروفاً غالباً لاينتظر جزاءً ولا شكوراً. حاولي أن تسعدي بحياتك وأن تسعدي زوجك النبيل الذي لولا خلقه الكريم لما تركك تنهمكين في تمريض أمك وخالك دون أن ينغص عليك حياتك. وفقكما الله وأدام عليكما الصحة والنجاح.