هي كل عالمها الآن والمسرح الذي تتراقص عليه وتتراص بعض الأشياء التي مازالت عالقة فيما تبقي لها من ذاكرة .. إسورة ذهبية.. عملات معدنية .. خيوط و"زراير" تربطها بدنيا الحياكة التي عشقتها ليخرج من تحت يديها أدق الباترونات وأرقي الموديلات.. مهارة انسحبت أيضا علي مجالات حياتها سواء كأم مثالية أو معلمة متميزة علي مستوي الجمهورية. .. مازالت تحتفظ بابتسامتها الواثقة .. ونظراتها الذكية وجديتها التي كانت عنوانا لشخصيتها فهي تقدس العمل والعلم والنظام.. إنها أمي الغالية التي باتت رهينة المقعد المتحرك فقد تمكنت منها أمراض الشيخوخة حيث تجاوزت الثمانين عاما من عمرها ومن الصعب علي من يصل لهذه السن أن يحتفظ بذاكرة قوية وفي حالة أمي عصفت طاحونة النسيان بذاكرتها لتصاب بالزهايمر.. هذا المرض الذي جعلها في أمس الحاجة لمن يتابع شئونها ويرعاها.. ومن لها غيري بعد الله عز وجل.. إنني ابنتها الوحيدة وقد تجاوزت الخمسين من العمر.. متزوجة ولم أفز بنعمة الانجاب وهو الابتلاء الذي تقبلته وزوجي بكل رضا وسلام فنحن مؤمنان بالقضاء خيره وشره وندرك أن العطاء الانساني لا يقتصر علي كون صاحبه أبا أو أما إنما بقدر ما يبذله من أجل إسعاد الآخرين. .. اسمحي لي أن اعبر هذه النقطة سريعا لأصل الي المشكلة التي تؤرقني وتكاد تعصف برأسي مع أن حلها في متناول يدي!! .. أمر يتعلق بخالي الذي يصغر أمي بسنوات معدودة .. خالي الذي كان نعم الأب لي بعد وفاة أبي وأنا طفلة صغيرة.. وكم فاض عليّ بعطفه وحنانه في كل مراحل عمري وهو صاحب الخلق الرفيع والمباديء الثابتة التي بسببها عاني كثيرا سواء علي المستوي الوظيفي أو في حياته الخاصة.. فلم يستمر له زواج وعندما تقدم به العمر بات المسجد بينه الثاني.. وصار أصدقاؤه المخلصون هم أهله وناسه الذين يهونون عليه وطأة الوقت وفقد الونيس. .. وجاءت اللحظة التي ما كان لغيري أن يكون بجانبه حين ألمت به أزمة صحية شديدة دخل علي أثرها المستشفي ثم خرج وهو أشد ضعفا وهزالا وكان عليّ أن أصحبه الي بيتي ليمضي فترة النقاهة عندي فترة وضعتني في اختبار حقيقي أسأل الله أن اجتازه بسلام.. كان عليّ في تلك الظروف التوفيق بين وظيفتي حيث أتقلد منصبا رقابيا يتطلب ساعات عمل طويلة وبين رعاية أمي المسنة الغائبة ذهنيا.. والمقعدة .. ثم خالي الذي لم تعد حالته تسمح بأن يعيش وحيدا. عبء فوق الطاقة حاول زوجي تخفيفه عني لكنه لم يستطع.. شعر زملائي في العمل بما أعاني منه حيث ازدادت عصبيتي.. وازدادت لحظات غفوتي مع قلة ساعات النوم.. وهنا اقتربت مني احدي زميلاتي وحدثتني عن الحل وهو إيداع خالي في دار للمسنين مشهود لها بالتميز والأمانة في رعاية النزلاء؟.. و إنه الحل الوحيد الذي معه انجو بنفسي من كل هذه الضغوط! تحمست لكلام زميلتي وبدأت بالفعل أبحث عن أفضل دار للمسنين يمكن أن أطمئن علي أبي فيها أقصد خالي ووجدتها لكنني لم أستطع مصارحته بهذا الأمر فكم أخشي عليه أن يتألم مثلما أخشي أن يكرهني بعدما ساءت معاملتي له تحت وطأة العمل المستمر.. وقلة النوم؟ جزاك الله عني خيرا.. الحائرة نورا البحيرة المحررة: بلغت الخمسين من العمر.. وتشغلين وظيفة تحتاج منك كل اليقظة تلك الوظيفة التي منحتيها عمرك كله فهي إن صح التعبير مولودك الحقيقي الذي كبر معك سنة وراء سنة ومن الظلم أن أطلب منك الآن تقديم استقالتك أو القيام باجازة مفتوحة . إن طرح زميلتك بايداع خالك بدار للمسنين ليس بالأمر المخزي خاصة لمن في مثل ظروفك فكل من والدتك وخالك بحاجة لرعاية لايقدر عليها من يملك التفرغ لها وهو ما لم أره عندك استعدادا له.. بل الملمح الأخطر في رسالتك الانعكاسات السلبية للضغوط التي تمرين بها في أسلوب معاملتك لخالك وهو التطور السلبي الذي أزعجك وتخشين أن يأخذ مسارا آخر لا ترضين عنه.. امضي في هذا الحل وصارحي خالك بالأمر قبل أن يطلبه هو منك.. فمن غيره الذي يشعر بك.. وأنت التي كبرت علي يديه ويعلم متي تغضبين..؟ ومتي تفرحين..؟ .. ومتي تغل يدك؟!