مشاعرك تتلجم بالدهشة التي انتابتك عندما سمعت موافقة أمك لذهابك معها للترعة وهي تغسل أواني الطعام, تجري دون شعور منك لجارك لتأخذ منه صنارته المصنوعة من البوص. فكم حلمت بهذا اليوم, تلملم أواني الطعام المتسخة من كل مكان في البيت.. أكواب الشاي من حجرة الضيوف, اواني الطعام من حجرات النوم, الحلة الكبري من علي الموقد الراقد في صحن الدار. صوت امك ينطلق في الشارع مناديا علي بعض النسوان يخرجن محملين بأواني الطعام المتسخة, تصرخ امك فيهن بحزم بسرعة أنت وهي قبل ما الترعة تمتلئ. يسرن كسرب من الطيور تقوده أمك بابتسامة رقيقة ولسان يرد تحية الصباح التي تلقي عليها.. تغمض عينيك متخيلا تلك السمكة الكبيرة التي ستصطادها وتخرج منها خاتم سليمان وتأمره باحضار دراجة جديدة تغيظ بها ابن خالك.. فما زال منظره وهو يخرج لسانه لك راكبا دراجته في العام الماضي يؤلمك.. يد أمك تقبض علي يدك بصرامة كي تعبر الطريق متخطيا تلك السيارات التي لاتهتم إلا بسباق الزمن.. تنجح في عبور الطريق, وها هي الترعة تلوح أخيرا أمامك, خطوات قليلة ستكون صنارتك في بطن الماء تنزع منه تلك السمكة التي ستحقق احلامك. تنزل درجات السلم وراء أمك التي تحمد الله أن الترعة غير ممتلئة, تضع عن امك الأواني وتحضر لها حجرا كي تقعد عليه, تغمض عينيك استحياء من منظر رجلين في الجانب الآخر من الترعة عاريين يستحمان, تجلس النسوة بجوار امك وقد ظهرت ايديهن وارجلهن البضة, تمسك صنارتك ببراعة تعلمتها من احلام يقظتك ترمي بها إلي الماء وعيناك في السماء متضرعتان إلي الله.. تبدأ امك الحديث مع نسوان شارعك مستفسرة منهن عن رأيهن في جهاز بنت الحاجة صباح بلغة تنم عن سخريتها.. الجميع يعرف خصومه امك مع الحاجة صباح بسبب الجمعية, كان يومها مشهودا قرعت الحاجة صباح بابكم بشدة, قابلتها امك بابتسامة رقيقة بددتها صرخة الحاجة صباح. هو أنا هبعتلك ألف مرة علشان الجمعية.. معادها فات من اسبوع. الصبر ياحاجة الناس معذورة.. احنا في شهر العيد. انا أكتر منهم.. البت عايزه شيء وشويات. خلاص بكرة الفلوس كلها هتبقي عندك بس خليك فاكرة. استدانت امك فلوس الجمعية من خالك حتي يدفع المشتركون.. ومن وقتها لاتكلم الحاجة صباح مطلقا حتي صباح الخير لاتلقي. تبدأ امك في قص حلقة أمس من المسلسل التركي وكيف كان مهند يتكلم مع نور.. يلفت انتباهك بصنارته الحديثة تقترب منه دون كلمة واحدة.. يشير إليك ان تجلس بجواره يربت علي كتفك ويمسح علي رأسك. اسمك إيه؟ علي يسألك عن عمرك وتعليمك وانت تجيب لكن عينك علي الصنارة هل ستخرج خاتم سليمان.. ينزع صنارته من بطن الماء فإذا بها سمكة صغيرة تخرج بها.. فيمسكها ويرمي بها في الماء مرة أخري.. فتنظر إليه بدهشة.. يغمض عينه فاتحا كتاب الذكريات.. اتصلت بي اختي الصغيرة تطالبتي بضرورة العودة لأري امي المريضة, ترددت في بداية الامر متوجسا ان يكون الاتصال حيلة لأعود للبلدة التي لم تطأ قدمي ارضها منذ عشر سنوات إلا مرة واحدة عندما مات ابي.. اعود لبيتي الكائن بوسط القاهرة, اجهز حاجاتي ليومين سأقضيهما بالبلدة, جلست أمام اوراقي القديمة كعادتي اليومية, استدعي اجمل مافي الذكريات, خطابات وصورة يعود تاريخها إلي عام ألف وتسعمائة وسبع وتسعين, صورة الفتاة التي خرجنا معا إلي الدنيا في شهر واحد.. كبرنا معا وكبر معنا الهوي.. ذهبنا إلي المدرسة معا ذاكرنا معا, عندما كانت تلمس اناملي اناملها كانت السعادة تلملم قلبي بين احضانها, كانت انفاسي تحوم بين العاشقين تردد معهم تراتيلهم,, العشق أجمل ماخلق علي الأرض.. بارك هذ الحب الأهل والجيران فالكل يعرف اني لها وهي لي.. في الصف الأول الثانوي رددنا معا اغاني الحب.. قبلتها في جبهتها, ضمتني إلي صدرها فأحسست ان مابين ذراعيها الجنة.. نظرت للأيام المقبلة في عينيها فشعرت ان الحياة ستبقي هكذا.. مرت الأيام والسنون والعشق داخلنا يروي القلوب.. اشتريت لها خاتما من فضة عندما امسكت يدها لالبسها الخاتم تبللت رموشنا من الدموع, فما اجمل الدنيا عندما تعطي الفرد ماتتمناه, اتفقنا ان يكون يوم نجاحنا يوم خطبتنا الرسمية.. بعد انتهاء الامتحانات طرقت انا وامي بابها, وجدت ابتسامة تخنقها ماديات كثيرة,, شقة, أربع غرف, ذهب, مقدم ومؤخر,, نظرت أمي لابيها لم تجد سوي كلمة مش هو راجل,, وللالسه عيل, خرجنا نجر اذيال الخيبة.. ظللت ابحث عنها فلم اجد حتي دموعها.. لم تمر أيام قليلة حتي سمعت زغاريد تخرج من بيتها لتعلن لي وفاة حلمي جنينا.. مازالت عيني تفيض احزانا, اضمد جروحي, اطوي ذكرياتي بفؤادي, احمل حاجياتي سافرا للبلدة.. تقودني رغبتي لرؤية امي ربما تكون المرة الأخيرة التي اراها, تقيد تلك الرغبة ذكرياتي المؤلمة.. اصل للبلدة محملا بالفرحة الخائفة من المجهول.. الأماكن لم تتغير وإن تمكن منها الزمن, شاطئ الترعة, نسيمه العليل, اشجار الكافور, القلب الصغير المحفور بأناملنا.. الطرق المؤدية للبيت, البيوت الشيء الوحيد الذي تبدل من الطين للأسمنت, اقرع باب البيت اسمع صوت امي تخبر القارع بانها قادمة.. تفتح الباب كما تركتها آخر مرة نحيفة الجسد لكنها تقاوم الزمن, مرتدية للسواد الذي اقسمت ألا تخلعه حزنا علي ابي, عيناها تتحدان الصعاب.. تتمسك بالحياة.. اناديها باسمها كما تعودت, تجبيني بضمي لصدرها ضاربة ظهري بيديها, تعاتبني لطول الغياب, تبتسم هامسة ليخفت عليا اقبل يديها.. ادخل خلفها, تنادي علي اخوتي, يهرولون نحوي يقودهم الحنين, تقعدني امي جوارها علي السرير تاركة لاخواتي تجهيز الغداء, تنظر إلي عيني سائلة متي سأمحو هذا الحزن, اصمت.. تطرح علي فكرة الزواج فالعمر قد تجاوز الثلاثين, تخرج مني ابتسامة تكسوها ملامح ساخرة مرددا زواج مرة أخري, ولم لاهكذا كانت اجابتها... العروس هذه المرة تملك ميزات كثيرة الحسب, الجمال, المال والاخلاق, من تكون تلك التي اختارتها امي فجميع من في عمري أو يصغرني بعشر سنوات تزوجن, تصدمني امي بقولها انها ابنة خالي.. اقف ضاحكا مذهولا من كلامها هل اتزوج فتاة تلهو في التراب مع اقرانها, انها لم تتجاوز المرحلة الابتدائية.. ابنة خالي التي كنت احملها فوق كتفي واحضر لها الشيكولاتة.. ترتمي امي فوق الأرض من الضحك ابنة خالك في الليسانس لقد صارت عروسا يتمناها الجميع.. اصمت خارجا لأفكر في الامر فهذا اقصي ما اعدبه.. كعادتي في الصبي عندما اتخذ قرارا تقودني رغبتي نحو شاطئ الترعة.. اجده امامي علي ظهر قاربه ممسكا بشبكته لعلها تأتي برزق يبيعه ليأكل أو ليأكله, الوح له بيدي اليمني اجد حالته استحالت إلي ضحكات ولسانه يردد أخيرا رأيتك, اقعد جواره علي ظهر القارب نتذكر سالف الأيام.. يربت علي كتفي هامسا بصوت لايسمعه غيري مالك؟, في الصغر كنت جالسا مع ابي نصطاد بالصنارة فكان رزقي أول الامر سمكة وليدة فاخذها من يدي وقص جزءا من ذيلها ورماها في الترعة مرة أخري فنظرت إليه فقال لايصلح الآن, مرت أربعة أشهر وامسكت بشبكتي مخرجا اياها من الماء فوجدت السمكة المقصوص ذيلها فرفعتها إلي ابي فصاح الآن يصلح, ينزلني علي الشاطئ.. اسير نحو البيت مشتت التفكير, اري سيدة بيدها طفل تجاوز العشر سنوات تداعبه وتضحك معه, تدنو مني.. تبتعد عني بابتسامة رقيقة.. كأني رأيتها من قبل. انها هي نعم هي حبيبة العمر, كيف لم اتذكرها؟, حقا الأيام تغير وتنسي.. التفت خلفي, اجدها قد غابت.. اجدني اغير وجهتي إلي بيت خالي.. اقرع الباب.. يفتح خالي الباب, اسلم عليه.. يدخلني مرحبا بي, يأخذها الحديث لأحوال القرية واحوالي بالقاهرة.. يقرع الباب, يتقدم خالي لفتحه, تدخل منه فتاة رائعة الجمال, تتقدم نحوي مرحبة بوجه تكسوه حمرة الخجل ويد مرتعشة, تضع كتبها بجواري مستأذنة لتحضر الشاي, يضحك خالي قائلا: انها ابنة خالك اعرف انك لم ترها منذ وقت بعيد, اومئ له.. امسك كتبها.. اتصفحها. تستوقفني صورة بداخل الكتاب.. انها صورتي.. يعود تاريخها لعام ألف وتسعمائة وسبعة وتسعين.. اتذكر كم كنت احمق.. ابتسم.. اغلق الكتاب حقا ما لم يصلح الأمس يصلح اليوم.. تري الحاجة صباح وهي تنزل درجات السلم لم تجد مكانا لها سوي بجوار امك. تخفي ابتساماتك مع نسوان الشارع, تقعد الحاجة صباح بجوار امك وتلقي عليها التحية ترد امك بصوت لايريد ان يخرج تقترب الحاجة صباح من امك. مش خلاص ياام علي. تتدخل بعص النسوان كي تجعل امك تكلم الحاجة صباح.. تقف امك وتأخذ الحاجة صباح بين احضانها. مفيش حاجة انا والحاجة صباح أكتر من الاخوات. تندهش من كلام امك.. أليست هي من اقسمت بألا تتكلم مع صباح ابدا.. تتذكر كلمة ابيك. صحيح نسوان. تعود للرجل.. تسأله عن خاتم سليمان فيضحك في وجهك مشيرا إلي رأسك. خاتم سليمان هنا.. لابد ان تتعب حتي تتذوق حلاوة الشيء. يعني مافيش خاتم سليمان, اصبر.. واتعب وبكرة هيبقي احلي من النهاردة وامبارح. تنادي امك عليك تهرول إليها دون ان تستأذن من الرجل.. تتعثر قدمك في الحجارة تسقط في الماء تعلو صرخات امك.. يمد الرجل يده ليخرجك من الماء بابتسامة,, تأخذك امك بين احضانها مقسمة إنها لن تأتي بك مرة أخري.. ترمي صنارتك مرة أخري في الماء سائلا امك عن كيفية الحصول علي حصالة.. تبتسم في وجهك وتقعدك جوارها وهي تكمل غسيل الأواني والكلام مع الحاجة صباح. أيمن وهدان أسنيت كفر شكر