من بديع لطف الله بعباده أنه لا يكلفهم إلا بما تطيقه انفسهم ولذلك جأر الصحابة بالشكوي حين نزل قول الله تعالي: "لله ما في السماوات والأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله علي كل شيء قدير".. وبكل قلب رحيم استمع سيدنا محمد رسول الله- صلي الله عليه وسلم- لشكوي الصحابة الذين جلسوا علي ركبهم ونقلوا إلي رسول الله لوعتهم لهذا الأمر الذي لا تطيقه انفسهم معلنين إذ كيف يتحكم الإنسان في الخواطر التي تتدافع إلي الذهن ولا يستطيع التحكم فيها؟ وهل يطيق البشر هذا الأمر مع أن قدرات الإنسان ضعيفة؟ وقد جاء رد سيد الخلق علي هؤلاء الصحابة مقدراً لأصحابه هذه المشاعر وذلك الإخلاص نحو أمور تفوق طاقة أي بشر. حيث قال لهم: قولوا سمعنا وأطعنا. مدركاً أن فرج الله قريب فهو الرءوف بعباده. وطالبهم أن يتريثوا حتي يقضي الله أمراً في هذا الشأن. امتثل الصحابة ورددواً: سمعاً وطاعة لربنا. إذعان وتسليم ورجاء إلي الله أن يأتي بالفرج أو أمر من عنده فينزاح هذا اللبس لكي تطمئن القلوب وتهدأ النفوس. لم تمض سوي فترة قصيرة وجاء الفرج من عند الله سبحانه: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" 285 البقرة. ثم توالت الآيات لتقول لهؤلاء الصحابة: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته علي الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين" 286 البقرة. هنا اتضحت معالم الطريق.. وقال بعض علماء التفسير الذين يجيزون النسخ: إن الآية الثانية وهي لا يكلف الله نفساً إلا وسعها نسخت الحكم السابق وهو أن الحساب سيكون علي ما يبديه الإنسان وما يخفيه في نفسه من خواطر. وقال آخرون: إن النسخ في آيات القرآن الكريم غير جائز وإنما الآية الثانية خصصت الحكم السابق بمعني الآية التي ثارت الصحابة وشكواهم تخوفاً وتحسباً من عقاب الله قد خصصتها الآية الثانية. أياً كان الأمر فإن لطف الله بعباده ورحمته بهم قد خفف عنهم وأزال عنهم كل حرج وهذا اختبار من الله لهؤلاء المؤمنين لقياس مدي تمسك هؤلاء بإيمانهم فأكد هؤلاء أنهم يخشون الله ويعملون بكل إخلاص. ولولا هذا اليقين الثابت وذلك التقدير لتكاليف الله سبحانه وتعالي لما كانت هذه الشكوي والخشية والرجاء ملء القلوب فهرعوا إلي رسول الله يستوضحون الأمر. وعبروا عما يجيش في خواطرهم بكل صدق. وقد كان سيد الخلق صلي الله عليه وسلم مقدراً لكل الأمور. فطالبهم بالسمع والطاعة لأن أوامر الله سبحانه لابد ان يتلقاها العبد بالرضا والقبول. هذا الخضوع والإذعان لأمر الله سبحانه كان سبباً في فرج الله ولطفه بعباده وعدم محاسبتهم علي تلك الخواطر التي تتدافع إلي النفس دون أي تحكم من الإنسان ولا يستطيع طردها بعيداً إذ ليس في مقدوره هذا الأمر. وبعد نزول الآية انفرجت أسارير الصحابة. وأخذوا يرددون هذا النداء الإلهي: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين" تلك إحدي الصور الكريمة من لطف الله بعباده.