لا يغرنك هذا العنوان المغري.. فما سوف تقرأه في السطور التالية ليس من الذاكرة وإنما في الحقيقة هو من المذكرة.. المذكرة التي تلازمني منذ سنوات أينما ذهبت وأينما أقمت.. أسجل فيها فكرة لاحت لي.. أو رأياً في قضية.. أو تعليقاً علي شيء قرأته.. أو مناقشة رأيت فيها ما يستحق التسجيل.. وذلك بعد أن نصحني صديق عزيز بألا أعتمد علي الذاكرة وإنما علي المذكرة. في عدد الاربعاء 26/6/1993 قرأت علي الصفحة الأخيرة للأهرام إعلانا يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم.. من أجل وظيفة لابني وابنك.. اشتر المنتجات المصرية لنساهم في حماية اقتصاد مصر.. مع تحيات الشعبة العامة للمستثمرين.. لجنة حماية المنتج المحلي.. عنهم محمود الحبشي.. للاتصال 3442559- فاكس 230255/110" . فرحت جداً بهذا الاعلان لأنه يمثل بداية جادة للدعي بالذات.. وايقاظ الوطنية المصرية.. ليس بالشعارات الجوفاء.. وإنما بالسلوك المتحضر الذي يدعم اقتصاد الوطن ويحميه.. بالفعل لا بالقول.. وأجمل ما فيه أنه لم يصدر عن الحكومة أو أي جهاز من أجهزتها ولكن عن شعبة المستثمرين.. فقد اثبتت التجارب الكثيرة التي مررنا بها فشل شعارات الحكومة ومبادراتها. ولكن مما يؤسف له أنني حين تفحصت أسماء الشركات الوطنية التي شاركت في هذا الاعلان وجدتها كلها تحمل أسماء أجنبية مثل: جولدن تكس. بي.تي. إم. وانتكس. جي.ام.سي وتساءلت في نفسي: لماذا هذا التناقض ياربي.. عندما كانت مصر محتلة وتناضل من أجل الحصول علي الاستقلال كانت أسماء شركاتنا بلغتنا.. كانت تتحدي الاجنبي.. واليوم نرتد إلي الوراء لتتحكم فينا عقدة الخواجة.. وتتسمي شركاتنا الوطنية بأسماء أجنبية حتي تستطيع بيع منتجاتها.. فهل تغير مزاج المواطن المصري؟! وكيف يتجاوب المواطن العادي البسيط في القري والنجوع مع هذه الاسماء الأعجمية ويشعر أنها "وطنية".. ويتفاعل مع هذا الاعلان ويحقق أهدافه؟! لقد تشابهت الاسماء علينا.. فصارت أسماء الشركات الوطنية لاتختلف في شئ عن أسماء الشركات الاجنبية.. وصرنا نحن الغرباء في وطننا. عندما بدأت نهضتنا الصناعية الحديثة في النصف الاول من القرن العشرين علي أيدي عدد من الاقتصاديين الوطنيين أمثال طلعت حرب ورفاقه كانت أسماء الشركات والبنوك والمؤسسات تحمل اسم "مصر" أو إسم صاحب الشركة أو المصنع. أو إسم المدينة التي أنشئ بها المصنع. وكلها كانت أسماء عربية مميزة.. ثم جاءت المرحلة الناصرية والتأميم فتم تمصير الشركات الاجنبية التي رحل أصحابها.. وبقيت شركات اخري بأسماء أصحابها "بنزايون- عدس- عمر افندي".. وعندما دخلنا مرحلة الانفتاح في عهد السادات طغت أسماء الشركات الاجنبية التي جاء بها المستثمرون الاجانب.. ثم قلدهم المستثمرون الوطنيون.. علي اعتبار أن المنتج الاجنبي هو الافضل.. وتدعم هذا الاتجاه أكثر وأكثر في مرحلة الخصخصة وبيع الشركات الوطنية لمستثمرين أجانب غيروا أسماءها من العربية إلي الاجنبية تمشيا مع موجة التغريب. والحقيقة ان هذا لم يحدث في مصر وحدها.. بل في كل الدول العربية تقريباً.. وإذا قدر لك ان تسير في شوارع أية عاصمة عربية وتتطلع إلي واجهات المحلات وإعلانات الشركات في الشوارع.. فسوف تشعر أنك هناك في الغرب.. ولست في وطن عربي. ولقد نبه مجمع اللغة العربية كثيراً إلي هذه الظاهرة السلبية ولكن لا مجيب.. فالظاهرة أكبر من أن تكون ظاهرة لغوية.. وإنما تتعلق بالهوية والوعي بالذات في زمن العولمة. الأن.. لا أظن أن لدينا من الوقت والاهتمام لكي نناقش مثل هذه الموضوعات التي يعتبرها البعض قديمة جداً.. أين ذهبت شعبة المستثمرين ؟! وأين ذهبت دعوة تشجيع المنتج الوطني من أجل وظيفة لابنك وابني؟!.. لماذا لم نستجب للدعوة.. ولماذا لم نعد نهتم بها؟! لقد تغيرت البلاد ومن عليها.