منذ أيام ودعنا د.محمد حافظ دياب عالم الاجتماع والناقد الأدبي والمفكر الكبير الذي تعددت عطاءاته الثقافية والفكرية ومثلت كتبه وأبحاثه إضافات مهمة إلي المكتبة العربية.. ننشر مقالين عن العالم الراحل كتبهما تلميذاه الأديبان فؤاد مرسي ومحمود قنديل محبة في الرجل وتقديراً لعطائه وإنجازاته المهمة: في "منية سمنود"» فاجأني منادياً علي شقيقته. ليقدمني إليها بقوله: - تعالي أعرفك علي اللي ح يجيبني ليكم. ارتعش بدني من جملته. وحدقت فيه طويلا. ذلك التحديق الذي لم أتخل عنه كلما ألمّت به نازلة وطلب أن يراني. خصوصا في محنته الأخيرة. لكن صلابته وقدراته الفائقة علي المقاومة والجلد والاحتمال التي تمتعت بها شخصيته. كانت دائما تؤكد لي أنه خاتلني بجملته تلك. وبقيت أتمني ألا تتحقق نبوءته وألا أكون ذلك الشخص الذي قدمه لشقيقته. كان مقصدي من تلك الزيارة بصحبته أن أحيط بتركيبة هذا الرجل في عقر منشئه "منية سمنود". التي كان يتباهي دائما بأنها أحد المواقع التي أقام بها السيد المسيح خلال زيارته إلي مصر!. للأماكن قدسية في نفوس أبنائها. لكنه يمنحها قدسية إضافية بهذا الحدث التاريخي الجليل. وكأنه ينحت لها أيقونة تقيها شرور التبدل والتنائي عن وجهها القديم. أو علي طريقة أبناء الجماعة الشعبية يصنع لها تحويطة. ضد غواية المدن. كان "دياب" قد حط مع مطلع الثمانينيات من القرن الفائت علي مدينة بنها. سكن في قلب المكان الذي كان مشغولا بحديقة قصر الخديوي عباس الأول. تحديدا حسب روايات الناس مكان قمرية الطيور. من هذا المكان شدا وتردد صداه بين قصر الثقافة. وكلية الآداب في موقعها القديم المواجه للقصر ولكوبري بنها الشهير. كان قد تجاوز الأربعين بقليل. لكنه كمن عاش ألف عام. أورثت عينيه تحديقاً بهياً. وأذنيه قدرة نادرة علي الإنصات. وداخله مقدرة تصيب دوما في التقاط السمين ولفظ الغث.. تتبعناه في الآداب وجاءنا قصر الثقافة. ومن خلاله عرفنا ولمسنا المختلف ودربنا علي التقاطه من بين ركام المألوف والعادي. كان مولده في اليوم الذي ولدت فيه هيئة الإذاعة البريطانية في قسمها العربي. أي في الثالث من يناير عام 1938. وهو أمر ظل يباهي به دائما. وهو أنه والقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية» مولودان متماثلان أو متساويان.. أليست هذه إحدي سمات البطل الشعبي. الذي يقترن ميلاده دائما بحدث كوني كبير. ولأنه ابن ريف. فقد دفع به أبوه إلي حفظ القرآن الكريم في "الكتاب". كان "الكتاب" دارا تعج بطلاب من هنا وهناك. ينشدون حفظ القرآن الكريم. كان الرجل يأتي بولده علي دابته ويتركه لصاحب الكُتاب الشيخ "محمد أبو خضرة" ثم يأتي بعد سنة أو سنتين ليتسلم ولده. بعد أن يكون قد حفظ القرآن الكريم. لك أن تتصور بناء يتكون من غرف عديدة: فهذه الغرفة لأبناء الشرقية. وهذه الغرفة لأبناء السويس. وهذه الغرفة لأبناء المنوفية. وهكذا.. خليط من صبية وشباب يجمعهم شيء واحد هو الرغبة في تعلم وحفظ وتجويد وتلاوة القرآن الكريم. ولاشك أن من كان بينهم مجيداً في صوته فسوف يتنبأ له بأنه سيكون قارئا ممتازا للقرآن الكريم. كان الشيخ يفاجئه دائما بقوله : سمع الماضي. أي أن يتلو عليه كل ما سبق وأن حفظه من آي الكتاب الكريم. كان "أبو خضرة" يملك إبداعية أن يستمع إلي أكثر من طالب في وقت واحد دون أن يفوته حرف. فيما الشيخ يشغل يديه بفن صناعة الخوص. وكأن بين فن صناعة الخوص وتحفيظه للقرآن ثمة وشيجة. فقد كان عندما يضع الخوصتين متناقضتين فهذا معناه أن الطالب أخطأ. لكن عندما يضع الخوصتين اللتين يشتغل بهما متماثلتين فهذا معناه أنه بعد لم يخطئ. كان يمتلك موهبة جميلة في التعليم. وكانت زوجته ترعي الأولاد في الإقامة والمأكل والمشرب. وربما لهذا كان القرآن الكريم هو المصدر الأول لتعليم "دياب" ونشأته. وهذا ربما ما يفسر أنه رغم عدم تخصصه فيما بعد في النقد الأدبي أو علوم اللغة العربية. إلا أن لغته ظلت قويمة ولسانه مفوه وعباراته سلسة ومتدفقة. الحميمية التي ربطته بالشيخ محمد أبو خضرة. امتدت لتقيم وصلا آخر مع الشيخ "زكي" مدرس الإنشاء: كان يمتلك موهبة نادرة في تحفيز طلابه علي كتابة موضوع الإنشاء. يأتي فجأة ويدخل الفصل مضطربا يلهث. ليقول لهم : أنصتوا يا أولاد. بينما كنت قادما إليكم وإذا بسيارة فارهة اقتربت مني وكادت أن تقتلني لولا ستر الله. ثم يسكت برهة ويقول بعدها : افتح الكراس. واكتب: قابلت حادثة في الطريق. صفها. إنه يمسرح الموضوع. ويقدمه في شكل درامي يشد الأنظار ثم يطلب منك أن تعبر عن المشهد وتنطلق منه لآفاق رحبة في التعبير الحر الخلاق.. لقد اكتسب دياب الصفة نفسها عن أستاذه. لذا لن تستطيع أن تفلت من سحر حكاياه بسهولة.. التفاصيل الدقيقة التي يتنقل بينها. ترسم أمامك لوحة فسيفسائية للروح الإنسانية. في صفوها وعكرها.. في سموها وانحطاطها.. في انكساراتها وانتصاراتها.. يرسم سيرا لأحداث وشخوص لم تنصب الأقدار لها منشداً شعبياً أو مدوناً فذاً. فأقام من نفسه حارساً لها. وعازفاً لألحانها. عارفاً بدواخلها الدفينة. ستظل نبرات صوته المتنوعة وهو يرويها. تتردد في مسامعك. تنشب أطرافها في جوانبك. وتراودك عن فعل الإبداع. أتساءل كلما التقط طرف خيط وعاد به إلي أوله» لماذا لم يقترف هذا الرجل فعل الإبداع.. ما الذي منعه من أن يواصل كتاباته القصصية الأولي التي بدأها في جريدة الحقائق المصرية: رجال في الزحام. المدينة. فتاة الليلة الباردة. والتراب. لماذا لم يصبح هذا الرجل قاصا من طراز يحيي الطاهر عبد الله ويرفد الأرواح بثمرة تجاربه النادرة مع الناس والحياة وقدرته الفذة علي تمثل الشخوص والنفاذ إلي مخبوئها. وهل هذا هو ما دفعه في منتصف التسعينيات أن يسعي وراء فنان السيرة الهلالية الشاعر فتحي سليمان. وغيره من رواة السير ويتقفي إبداعية الأداء لديهم. ويقدم منجزه المهم عن إبداعية الأداء في السيرة الشعبية. *** كانت القرية قد خلعت كسوتها القديمة. وأرتني أقمشتها الجديدة حين زرتها برفقته. لا أدري كيف كان يراها. وكأنه قرأ السؤال بداخلي فقال لي: إن هذا أمر طبيعي عليك أن تتقبله بصدر رحب. مع ذلك واصل تفتيشه في ثنايا المكان عن الصورة التي عاشها. وراح يعاين جديدها في أضواء شحيحة من زمن غائب بعيد. لكن بقايا شهوده حاضرة. وقف يتأمل بيتهم القديم. ويلتقط أصوات آتية من بعيد.. فقد عادت جدته من الخارج لتفاجأ بأنهم قد قاموا بتبليط غرفتها في غيبة منها. حدقت فيهم واحدا فواحدا. ودخلت مسرعة إلي الغرفة. أغلقت علي نفسها الباب غير مبالية بالخبط المتوالي علي الباب. عشر ساعات كاملة وهي بالداخل وحيدة. إلا من أصابع قوية نزعت بلاط الغرفة وحفرت في الأرض. حتي اطمأنت علي أن الدمكية "تحويشة العمر" لم يمسسها نصب ولا سوء. حينها فتحت الباب وقالت لهم: يلا بلطوا بقي! *** تأمل البيت سريعا ولبي دعوة أحد ساكني الحارة الجدد. رجل علي مشارف الأربعين. يملك نتفاً من سيرة شهود الحارة الأولي. تواترت إليه في ضمة الناس ولمتهم القديمة. قبل أن تضمهم الصور الآتية من الأطباق اللاقطة المنتشرة فوق أسطح البيوت. أشفقت عليه من شقاء العودة إلي اللحظات الأولي. حتي لا يعتريه هاجس مفاجئ بأن ذاكرته ذبلت أو يكتشف أن ناس البلاد الجدد لم يعودوا يعرفونه. لكنه ظل يتنقل بي من درب إلي آخر. بأقدام مدربة. خبيرة بالانعطافات المفاجئة. هنا في مدخل هذه الحارة. وعلي شاطئ النهر. أقيم أول محلج قطن في مصر. امتد شريط قطار الدلتا إلي داخله. كي ييسر نقل بالات القطن المحلوج. وأيام الأربعينيات. بدا السكان المقيمون في الحارة مزيجا عجيبا: جالية يونانية تنتمي إلي أصحاب المحلج. وكان من عادة نسائهم أن يخرجن عصرا وهن "حاسرات" فيما رائحة العطر تفوح من هؤلاء "الخواجات" ومئات من الرجال الصعايدة الأشداء. يأتي بهم مقاول الأنفار من الصعيد للعمل في المحلج. وبعضهم كان يأتي مصطحبا أسرته ويقيم في الحارة. وعشرات من فلاحي المنوفية. جاءوا من قراهم ليعملوا في أكبر مزرعة عنب أقيمت علي مشارف القرية. فتحلو لهم الإقامة في الحارة لقربها من المزرعة. بهاء التحديق في الأمكنة مازال يظللنا. رحنا نبحث عن شجرة الجميز التي كان "رجاء النقاش" يجلس فوق أحد أفرعها ليذاكر دروسه. مازالت الشجرة المعمرة منتصبة تطل علي النهر. وتنسدل جذوعها فوقه. كأنها تريد أن تمحو القطيعة. وتعيد التواصل مع الطبيعة. وتقبض علي مكوناتها: تهب الظل. وتمسك بالضوء. وتمتص بجذورها معادن التراب. وتغتذي من الماء. *** في زيارتي الأخيرة له. قبض علي يدي بكفه المرتعشة. تشبث بها جيداً. ثم اقترب من وجهي وقال: - مش ح اشوفك تاني ياوله. ألح علي حروفها طويلا وأخذ يرددها أكثر من مرة. كأنه يؤكد لي أنني لن أفلت من نبوءتيه.. تركت منزله منقبضا. ورحت أدور في الشوارع المحيطة به. أسترجع منمنمات علاقتي به. وأؤكد لنفسي أن "دياب" يخاتلنا جميعاً. وأنه بعد ساعات قلائل سيسترد عافيته ويكمل حكايات مؤجلة كان قد وعدني بها. وسأواصل استجلاء ما كان يدور بذهنه. وما خلفته زيارتنا سوياً لقريته من رؤي. بدأها قائلا: تلاشت ملامح القرية القديمة: ضاق فيها المدي. وكان قبلا مفتوحا لألوان وظلال. وهدمت الدور الطينية. وتناثرت علي أنقاضها مساكن الطوب الأحمر المحاطة بالمخلفات والقمامة. وغابت الكتابة ومعها الرسوم من فوق الجدران. كأنها كانت تنتسب لحيطان الطين. وتوقفت مع بنايات الأسمنت. وغاب الفرن الذي كان يجد مطرحة في كل دار وحارة. وكان علي آخر من تخبز فيه عيشها أن تترك أرغفة عشرة وطبقا من الملوخية داخله. حتي إذا أتي غريب إلي الحارة. وجد لقمته. وغابت كذلك جلسات الرجال فوق المصاطب. يتندرون ويجدون لكل جائحة علتها. وزادت أعداد المنتقبات. وكثرت محال الدش ونوادي الإنترنت وصالات الجيم والبنايات المرتفعة. افتقدت القرية هذا الموروث في الحاضر. وافتقدت معه مشروعا للتقدم لم تكتب له الولادة بعد.. وأضافت إلي كل هذا الفقد افتقادي وافتقادها لشيخي "محمد حافظ دياب".