كانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة منزوعة السياسة بالكامل.. لم تكن فيها مبارزة بالبرامج ولا منافسة بالأفكار والتوجهات الحزبية.. وإنما اعتمدت علي العلاقات الشخصية والتربيطات العائلية والعصبية القبلية.. ناهيك عن الدور الحاسم الذي لعبته الرشاوي الانتخابية والمال السياسي في شراء المرشحين وشراء الأصوات.. والخوف كل الخوف أن يصبح البرلمان بعد تشكيله منزوع السياسة أيضا.. بمعني أن يتم توزيع الأدوار فيه علي أرضية غير سياسية.. وتتكون التجمعات والائتلافات والتكتلات فيه علي أرضية غير سياسية.. وتدور المناقشات والصدامات فيه علي أرضية غير سياسية. مجلس النواب في كل دول العالم الديمقراطي هو محط أنظار الشعب الذي يري فيه صراع الأفكار والبرامج والأحزاب.. وهذا الصراع يكشف التمايز المطلوب بين التكتلات السياسية.. ولو لم تمارس السياسة في البرلمان وعلي مرأي ومسمع الشعب كله فأين تمارس؟! ومن يتابع التحركات التي تجري في الخفاء والعلن علي حد سواء لتشكيل تكتلات وائتلافات داخل البرلمان لابد أن يصاب بصدمة حين يري إصرارا عجيبا من القائمين علي هذه التكتلات والائتلافات علي نزع السياسة.. منها.. والابتعاد بها عن أي شبهة للمنافسة في مواجهة آخرين.. كما لو كان المطلوب أن يكون البرلمان صوتا واحدا بدعوي الاصطفاف الوطني. والحوارات الدائرة حاليا لتشكيل ائتلاف "دعم الدولة المصرية" أو ائتلاف "نواب الصعيد" تسير - للأسف - في اتجاه نزع السياسة من البرلمان.. فالائتلاف الأخير يقوم علي تقسيم جغرافي وعصبية قبلية موجودة في كثير من مؤسساتنا.. وتكريسها في البرلمان تكريس للانقسام الجغرافي والتعصب القبلي المذموم في الدولة المدنية الديمقراطية التي نص عليها الدستور.. ولو قام نواب المناطق الجغرافية الأخري بتشكيل ائتلافات منافسة للدلتا أو منطقة القناة أو الواحات لوقعت الكارثة.. أما ائتلاف "دعم الدولة" فإنه يثير من المشاكل ما لا حصر له.. فهو - مثلا - يفترض أن من لم ينضم إليه سيكون ضد دعم الدولة.. والدولة هي دولة المصريين جميعا.. وكل منهم يدعمها بما يراه صالحا.. وفي ذلك تكون المنافسة والتعدد في وجهات النظر ناهيك عن الكلام الكثير الذي أعلنه أحد النواب الوفديين بأن الأمن الوطني هو الذي أرسل إلي الأعضاء رسائل تطلب منهم الانضمام إلي "دعم الدولة".. قال لهم ادخلوا فدخلوا.. ومعروف أن الأمن الوطني إذا دخل من الباب خرجت السياسة من الشباك.. فمن يجرؤ علي أن يقف ضد الأمن؟! والأصل في العملية البرلمانية أنها حزبية وقائمة علي برامج وسياسات معلنة تتيح تداول السلطة.. وعندما تغيب هذه الأمور وتصبح الغلبة للمستقلين الذين يمثل كل واحد منهم نفسه ويحدد موقفه في كل قضية بناء علي قناعاته أو مصلحته وليس علي توجهات حزب وتيار فكري وسياسي يصبح من الصعب توقع توجهات الحكومة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. وتفقد الدولة "الكتالوج" أو البرنامج الذي يعبر عن فكرها وأهدافها واستراتيجيتها. والمفارقة هنا أن مسئولي ائتلاف "دعم الدولة" طلبوا من النواب المنضمين إلي مظلتهم التوقيع علي وثيقة يتخلي فيها النائب عن حزبه "وثيقة عدم التحزب".. وهو ما يصطدم بالقانون الذي يحظر علي النواب تغيير صفتهم الحزبية التي تم انتخابهم علي أساسها.. وهذا معناه أن يوقع النواب تفويضا للائتلاف دون أي برنامج سياسي أو إطار فكري. المفارقة الأكبر أن رؤساء الكتل الحزبية في البرلمان لا تعرف لهم برامج سياسية أو فكرية متمايزة حتي الآن.. وفيما عدا أحزاب مثل التجمع والمصري الديمقراطي والنور لا نكاد نعرف علي أي أرضية سيقف قادة حزبيون مثل أكمل قرطام ومحمد العرابي والمهندس أشرف رشاد وصلاح حسب الله. نحن نعترف بأن الحياة السياسية والحزبية في مصر تعاني من هزال شديد.. يكفي أنه من بين 106 أحزاب علي الساحة لم يصل إلي المجلس إلا 19 حزبا من بينها 12 حزبا حصلت علي ما بين 6 مقاعد ومقعد واحد.. وكان الأمل أن يكون البرلمان ساحة للمنافسة والتعددية السياسية.. لكن الواضح حتي الآن أن الأمور تسير في اتجاه جعل البرلمان منزوع السياسة.. وهذا خطر لو تعلمون كبير.