نحن في حاجة إلي تقييم جاد علمي وموضوعي لمرحلة ما بعد عبدالناصر وهدم جوهر نظامه المهموم بالشعب وباحتياجاته من التعليم والثقافة والفنون. طوال عقود ما بعد الاجهاض العملي لمبادئ ثورة 23 يوليه كان هناك شبه تعمد لتغييب الثقافة والفنون المرتبطة بالقضايا الخاصة بالحياة اليومية لعامة الناس علي مستوي الصحة والتعليم والاقتصاد والدراما بأشكالها وبالذات التي توقظ وعي الناس وتقوي ثقتهم بأنفسهم. حاجتنا إلي هذا التقييم تعني معرفة ما جري في هذه العهود وأدي إلي ارتفاع نسبة الأمية وشيوع الخرافة. وتطور النزعات الدينية المتطرفة وجنوحها نحو دروب تؤدي إلي خروج جماعات إرهابية تنمو وتترعرع في ظل الجهل السائد والفقر المتسيد والتعليم المشوه والتاريخ المحرف.. والغياب العمدي للأعمال التي تلقي الضوء علي معاناة المصريين تحت سيطرة رءوس الأموال الطفلية وعلي الاقتصاد "الحر" في تخريب المشروعات الوطنية. قليلة تلك الأعمال الجادة والموضوعية التي تناولت تاريخ حفر قناة السويس 2 وتسجيل المعاناة الكبيرة التي تجرع مرارتها عشرات الآلاف من المصريين الذين كانوا يقادون إلي السخرة في ظل ظروف إنسانية بائسة وغير آدمية. وتحت سيطرة أجنبية استعمارية لا تكترث بانتشار الأوبئة ولا بسقوط ضحايا بالآلاف. المعرفة بالتاريخ توقظ الوعي بالحاضر وبأسباب تخلفنا بعد عشرات السنين لا يوجد غير قليل من الأعمال التسجيلية التي أرخت لحفر قناة السويس الذي استمر عشر سنوات "1859 1869" بلا تسجيل للظروف اللانسانية التي شكلت البيئة الظالمة للانسان المصري. البطل الحقيقي وراء هذا المشروع الذي استفاد منه المستعمر إلي أن أعلن جمال عبدالناصر تأميم القناة عام ..1956 الأعمال التسجيلية القصيرة التي أنتجت بعد حفر القناة بسنوات طويلة موجودة في الأرشيف لدي المركز القومي للسينما. علما بأن هوليود انتجت أعمالاً روائية طويلة منها فيلم "السويس" "sues" عام 1937 الذي أشرت اليه هنا علي هذه الصفحة منذ أقل من شهر ورشح لعدد من جوائز الأوسكار.. فقد كانت القناة "رمزا" للوصاية الغربية الكلونيالية علي مقدرات المصريين وأرضهم حتي تم "التأميم".. وبعد ذلك شعر المصريون بأنها عادت إليهم ومن ثم ألقوا الأشعار ولحنوا الأغنيات وتغنوا بما حققه أجدادهم بدمائهم وعرقهم وأرواحهم. نسبة قليلة جداً. عالجت بجدية هذا الحدث الجلل في تاريخ المصريين وتناولت الظروف المركبة والصعبة التي جري فيها. والتدخل السافر الذي عرفته مصر في تلك الفترة من حكم الخديوي إسماعيل غربي الهوي والتوجه ووطأة الديون التي أغرقت فيها مصر من جراء ذلك. من هذه الأعمال في مجال الدراما التليفزيونية "بوابة الحلواني" التي عاد مؤلفها محفوظ عبدالرحمن إلي هذه الحقبة ليقدم صورة موضوعية للحالة الاقتصادية والسياسية التي كانت عليها مصر. وجانباً من مشروع القناة حين كان الخديوي إسماعيل حاكما والظروف التي تم فيها الحفر فضلاً عن نظام "السخرة" واقتياد الفلاحين عنوة إلي حفر القناة.. ويعتبر هذا العمل للكاتب الكبير الوحيد تقريبا وسط عشرات الأعمال التي تقدم سنوياً. الذي ينتبه لأهمية تناول هذه المرحلة وأهمية هذا الحدث الملحمي في حياة المصريين. ومؤخرا شاهدنا مسلسل "سرايا عابدين" لكاتبة كويتية "هبة مشاري حمادة" واخراج عمرو عرفة وانتاج سعودي اتسم بالسخاء من حيث القيمة الانتاجية وبالضعف المخل والمسيئ إلي التاريخ حسب التقييم الموضوعي للمادة التاريخية التي اعتمدت عليها الكاتبة. أما الأعمال السينمائية المهمة الجدير بالاشارة فيلم "شفيقة ومتولي" "1978" للمخرج علي بدرخان وبطولة أحمد زكي وسعاد حسني حيث يحرص المؤلف "شوقي عبدالحكيم" علي بعث الأجواء التي ارتبطت بهذه الفترة حين كانت السلطة الاستعمارية وعملاؤها من الاتراك تستدعي الآلاف من الشباب المصريين للعمل سخرة في حفر قناة السويس.. والظروف البائسة التي رحل فيها "متولي" "أحمد زكي" تاركاً شفيتة "سعاد حسني" تواجه مصيرا تعساً بتأثير تضافر عناصر الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي ممثلا في "الغازية" والقوادة التي تبيعها "للطرابيش" وابن العمدة الفاسد ومقاول الانفار صاحب الجاه المتعاون مع الاستعمار "أحمد مظهر". وقد عبر الفيلم بالحبكة الدرامية والأغنية والمناظر التي تعكس أجواء إحدي قري الصعيد. عن مضمون هذه المرحلة وأثر ظروف الفقر والانحلال والتبعية السياسية علي "شفيقة" وعلي "متولي" والتي تقضي علي حياة الاثنين في النهاية. ومن الأعمال المحترمة فيلم "ناصر 56" للمخرج محمد فاضل وبطولة أحمد زكي وعدد من الممثلين الكبار وإنتاج قطاع الانتاج باتحاد الاذاعة والتليفزيون الذي توقف عن الانتاج إلا من القليل جداً في السنوات الاخيرة.. قام بتأليف هذا العمل مؤلف "بوابة الحلواني" محفوظ عبدالرحمن. فمنذ أن غاب المؤلفون الكبار من حقل الدراما. وبدأت علامات "الفقر" تكسو وجه الانتاج. خصوصا إنتاج الدولة.. العملان "بوابة الحلواني". و"ناصر 56" ينتسبان إلي "الدولة" وبعد تراجعها في السنوات الأخيرة جري ما جري للدراما التليفزيونية رغم أنها الأكثر تأثيراً من بين وسائط الاتصال الجماهيرية. تناول الكاتب هذه السنة "1956" وهذا الحدث الجليل "تأميم قناة السويس" باعتبارهما أهم فترة وأهم انجازات حكم بعد الناصر السياسية حين كانت شركة قناة السويس دولة داخل الدولة. وعندما سحب البنك الدولي عرضه بتمويل مشروع السد العالي أعلن جمال عبدالناصر تأميم القناة في ميدان المنشية بالاسكندرية في 26 يوليو .1956 ومن المفارقات الحلوة أنني شاهدت هذه الفيلم يوم الخميس 6/8/2015 علي شاشة التليفزيون أي في نفس يوم حفل افتتاح قناة السويس الجديدة. وبينما كنت أتابع لحظات ما قبل إعلان التأميم والمشاورات التي كان يعقدها عبدالناصر مع محمود يونس وأحمد مشهور وعبدالحكيم عامر والبغدادي وأتابع وقع المفاجأة عليهم وبعض حالات الخوف أو التحفظ أو التوقع لردود أفعال دول الغرب. أساسا بريطانيا وفرنسا. بينما اتابع هذه المشاهد. كنت أقرأ في نفس الوقت العناوين المكتوبة أسفل الشاشة من خطاب الرئيس السيسي في حفل الافتتاح. وأجد جسرا موضوعيا قويا يربط بين الحالتين. وأعني جسارة القرار وعنصر الإرادة التي لا تليين. وروح التحدي والثقة بالنفس وعدم الاكتراث بالعدو مادمنا كنا نملك الحق. فعلا كان التشابه في شخص الزعيمين واضحا من حيث الجوهر وبالذات الثقة بالنفس واتجاه الارادة الوطنية التي كانت في صالح الشعب وليست لصالح الفرد. وتلك نقطة حاسمة يجيب عليها السلوك العملي للزعيمين وخصوصا أن كلاً منهما جاء إلي مقعد الرئاسة في ظل تحديات كبيرة انتجت حروباً عدوانية اجرامية "العدوان الثلاثي" والحروب التي تشنها الجماعة الإرهابية وأخواتها. ورغم أن فيلم "أيام السادات" للمخرج محمد خان "2001" عن سيناريو وحوار أحمد بهجت وبطولة أحمد زكي وميرفت أمين ومني زكي. رغم انه أشبه بسيرة ذاتية مرسومة وليست كاملة بالقطع عن حياة الرئيس محمد أنور السادات الا أنه يتضمن جانبا من الحركة الوطنية المناهضة للاحتلال الانجليزي التي شارك فيها السادات نفسه ويرصد الصراع الذي دار بين الضباط الأحرار ومحاولة اغتيال عبدالناصر وجلاء الانجليز عن مصر ثم تولي جمال عبدالناصر حكم مصر. وقيامه بتأميم قناة السويس التي أدت إلي اعلان بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الحرب علي مصر .1956 الفيلم من انتاج أحمد زكي. وقد اعتمد كاتب السيناريو علي كتاب "البحث عن الذات" الذي ألفه الرئيس السادات وعلي كتاب "سيدة من مصر" لجيهان السادات والفيلم لم يتعرض بالطبع لمشروع القناة واكتفي بالاشارة إلي التأميم وإعادة فتح القناة بعد حرب ..1973 ولكن الفيلم نفسه أحيط بتكريم الرئيس السابق حسني مبارك الذي منح فريق الفيلم وسام العلوم والفنون من الطبقتين الأولي والثانية خلال استقباله لهم بمقر رئاسة الجمهورية في حضور صفوت الشريف وزير الإعلام حينئذ.. انه فيلم "رسمي" اذا صح التعبير. ويشار إلي فيلم "المظ وعبده الحامولي" "1963" كأحد الأفلام المصرية التي تعتمد علي قصة حقيقية حدثت في القرن التاسع عشر أيام الخديوي إسماعيل الذي أعجب بألمظ"!!" أي في نفس مرحلة حفر قناة السويس ولكنه في النهاية عمل تجاري يتناول قصة عاطفية لمطربين اشتهرا في ذلك العصر وشكلا ثنائياً ناجحاً وهما المظ وعبده الحامولي.. وقام بأدوار البطولة وردة الجزائرية عادل مأمون والفيلم عن قصة للروائي عبدالحميد جودة السحار وأخرجه حلمي رفلة ويقدم الخديوي كرجل صاحب مزاج ويقع في غرام المظ.. الخ. الحدوتة أو الحواديت التي تفصل للمطربين عادة لاستغلال جماهيرتهم. الاعمال الجادة التي تعالج الاحداث التاريخية المهمة في مسار الشعوب وتطورها مثل حدث حفر قناة السويس إبان القرن التاسع عشر وتداعيات ذلك علي المستوي الاقتصادي والسياسي والسيادة الوطنية. هذه الأعمال نادرة وتشكل نسبة لا تذكر من مجمل الأعمال الدرامية التي تنتجها الدولة والقطاع الخاص علي حد سواء.. مثل "ابناء الصمت" و"حكايات الغريب" ولكن اعتقد أن حظ قناة السويس الجديدة التي جري الاحتفال بافتتاحها يوم الخميس 6/8/2015 وهو تاريخ مضئ في مسيرة الشعب المصري بعد ثورتي 25 يناير. 30 يونيه وفي عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي. اعتقد أن هذه "القناة الجديدة" التي احتفل العالم بها ستجد طريقها مفتوحا وجليلا علي الشاشات الصغيرة والكبيرة وستجد من يشدو لها بأصوات عدد كبير من المطربين وكذلك صدي في الأعمال الأدبية والمسرحية الخ. انها ملحمة شعبية بكل المعاني وتستحق أن تخلد وقائعها للأجيال القادمة وبها فكرت الدولة في إعادة انتاج ما جري في ظروف قناة القرن التاسع عشر لان هناك بالتأكيد مادة وثائق أرشيفية ولوحات تشكيلية مرتبطة بذلك الحدث وذلك حتي يتابع الجيل الحالي ما جري لأجيال عاشت منذ مائة وخمسين عاما. وأخري تعيش الآن وترقب هذه اللحظة التاريخية وتختزنها في الذاكرة باعزاز ورأس مرفوعة وثقة كبيرة بالغد.