اختبأ القمر في أحضان السحاب. حلت الغيوم السماء. تقف فتاة علي الرصيف تمسك بيدها "موبايل" وفي أذنيها سماعته تدندن مع الموسيقي الهادئة. عليها جيب جينز وجاكت أسود غامق حقيبتها معلقة علي كتفها. تنفخ في يديها وتفركهما من لسعات الهواء البارد ليتخلل الدفء بين أصابعها. سمعت صوت الاذان. نظرت لساعتها وهي تتمتم: "يا نهار أبيض المغرب آذن". لمحت "ميكروباصاً" قادماً من بعيد تقدمت خطوة نحو حافة الرصيف. لوحت له بكلتا يديها. توقف أمامها. صعدت جلست علي كرسي منفرداً في يمين السيارة بجانبها طرقة ثم كرسيين وخلفها كنبة بأربعة كراسي. خلعت الحقيبة من علي كتفها. نظرت اليها بعينين مبحلقتين. شهقت بصوت منخفض قليلاً عندما وجدت السوستة مفتوحة. فتشت بعينيها ويديها عن حافظة النقود. أخرجت ما في الحقيبة من كتب وأقلام ونظارة. فلم تجد شيئاً قلبت أوراق الكتب رغم علمها أن الحافظة لا يمكن ان تختبئ بين أحضان الكتاب.. يخرج صوت السائق وهو ينظر في المرآة أمامه: "لسة ناقص أجرة ورا". نهضت فزعة. ألقت بالحقيبة وما بها علي المقعد. تنظر اسفله تنحني يمينا ويساراً تريد أن تقول له انتظر ولكن الكلام محشور بحنجرتها. تبرطم امرأة من الجالسات في الخلف: "أنا عارفة يا ختي ازاي البنات بتقدر تمثل كدة دي حتي شكلها نضيف ولبسها حلو". ترد عليها من بجانبها مع مصمصة شفتيها: "شغل تسول كفانا الشر" تخترق الكلمات أذنيها كطلقات الرصاص. دمعت عيناها كتمت صوت بكائها وهي ترص أشلاء حقيبتها. مع تجول قشعريرة بجسدها. أيقنت انها يجب ان تعتذر للسائق وتهبط من السيارة.. ألقت بنظرها من زجاج السيارة. وجدت قطرات الماء علي الزجاج وشبورة تحجب جزءاً من الرؤية. يخرج الضوء من أعمدة المصابيح بلونه الاصفر الباهت والمطر يهطل بالخارج ولا يوجد أحد بالشارع غير مجموعة من الاطفال يجرون تحت المطر فرحين مهللين رافعين أيديهم لأعلي. وقليل من الناس يختبئون تحت المظلات وأسفل "البالكونات" ظهورهم منحنية. يمشون علي أطراف أصابعهم. وعندما يجدون بركة ماء يحاولون تفاديها بالقفز من فوقها مثل القطط لم يهمها كل ذلك. همت في طرقة السيارة وهي تسير نحو الباب قائلة في استحياء:" أنا آسفة يا اسطي مش لاقية المحفظة ممكن تنزلني؟. يضحك بسخرية ملتفتاً إليها تارة وإلي الطريق تارة أخري: "أنزلك إيه يا حلوة بعد ما عدينا نص الطريق. احمرت وجنتاها وهي مازالت تبحث في جيوب جيبتها. لمعت الساعة في يدها أردفت متلعثمة: "طب اتفضل الساعة دي وأنا اسفة والله مش لاقية معايا فلوس" امتدت يد شاب للسائق بالاجرة. همس للفتاة مقترباً من أذنها: "اتفضلي اقعدي حصل خير" شكرته دون ان تلتفت إليه. ظلت واقفة في ذهول تتحدث في داخلها: "كيف سأخبر والدي" أن أول مرة اصرف معاش من ماكينة الصرف الآلي. أضاعت المعاش والكارت وكارنيه الجامعة والبطاقة من أين سنصرف هذا الشهر ومن أين سأشتري علاج والدي وكيف سنسدد تحصيل الغاز والكهرباء والمياه ومصاريف أخري بالثانوية العامة كيف سندفعها؟ تنهدت زافرة كأنها تلقي بهمومها: "الله يرحمك يا ماما كنتي شايلة عننا هم كبير" تحركت السيارة ومع المطبات تترنح يميناً ويساراً كبندول الساعة تسارعت دقات قلبها كأصوات الطبول في ساحة المعركة.. رغما عنها سالت دموعها علي خديها فبدت لها الرؤية مشوشة تهتز أمامها لافتات المحلات والاضواء بالخارج. رفضت ان تغلق عينيها أصرت ان تظلا مفتوحتين لمعت أمامها نظرات الركاب.. صوب الجميع نظرتهم عليها أئمة نظرة شك أو وعدم تصديق وآخرون بعطف وشفقة مسحت بعينيها وجوههم. ومسحت وجنتيها من أثر الدموع.