اليوم الأحد في السادسة يقدم الصالون الثقافي بقصر الأمير طاز "أحد قصور المماليك في مصر" ندوة حول صورة الجيش في السينما المصرية يشارك في الندوة الفنان عزت ابوعوف واللواء محمود منصور والناقد الفني أشرف عبدالرحمن وكاتبة هذه السطور. موضوع الندوة لاشك جدير بالاهتمام لأنه يطرح اسئلة مهمة حول دور السينما المصرية كمؤسسة وطنية في تمثيل صورة الجيش اولا كمؤسسة عسكرية خاضت حروب التحرير بدءا من حرب 1948 مروراً بالعدوان الثلاثي 1956. وحرب 1967 ثم انتصار اكتوبر 1973. وثانيا كأفراد أدوا واجبهم الوطني باخلاص واستشهد منهم من استشهد وقاتل من قاتلوا ولا يزالون. هناك أيضا صورة الجيش في الثورات الوطنية في ثورة يوليو 1952 وحتي ثورة 30 يونيه 2013. سؤال ضروري: هل استطاعت السينما أن تسمو إلي المستوي المنشود الذي يصور بصدق ما جري علي أرض الواقع؟ ان صورة الجيش أو المؤسسة العسكرية في الوعي الثقافي الجمعي جليلة ولها قداسة. ولم يحدث أنها تشوهت أو أصيب بخدوش تنال من قدسيتها الا في سنوات الانحطاط الثقافي والتراجع الاجتماعي الذي وصل إلي قاع غير مسبوق بالنسبة للذاكرة القريبة الا مع نهاية عصر مبارك ووجوده علي رأس السلطة وكان ذات يوم مقاتلا ورجلا عسكريا وطنيا في سنوات حرجة من تطور الصراع العربي مع إسرائيل. وحتي في هذه المرحلة من حكم مبارك لم يكن للجيش المصري صورة سلبية ولم نعرف في تاريخنا المنظور كلمة "عسكر" الا بعد أن قفزت جماعة الإخوان إلي الحكم وبعد تربص طويل وخبيث للوصول اليه دخلت إلي المشهد. الأفلام السينمائية عبرت عن معزة العسكري الجندي المقاتل في أعمال سبقت أول صدام لنا مع الاستيطان الاسرائيلي الذي جهزت له الإمبريالية الغربية قبل قيام الدولة العبرية بزمان طويل. بعض هذه الاعمال لم تجد طريقها للعرض ولكنها موجودة في التاريخ السينمائي مثل فيلم "تحت السلاح" 1940 للمخرج فؤاد الجزايرلي وفيلم "قلب وسيف" 1947 للمخرج جمال مدكور.. اعمال عبرت عن معزة الجيش وعن دوره في الدفاع عن الوطن وتضمنت إلي جانب القصة والمعالجة الإيجابية التي تكرس المفهوم الراسخ في الذهنية الوطنية تضمنت الاغنية الوطنية التي تمجد الرجال والروح الوطنية وتحمي الوطن. ضباط أبطال في السينما والشئ الذي تنفرد به السينما الوطنية في مصر وجود ضباط جيش اتجهوا للعمل السينمائي وكتبوا للسينما وقاموا بالتمثيل علي شاشتها ولعبوا ادواراً لافتة كعسكرين ورجال معارك علي سبيل المثال أحمد مظهر ومحمود ذو العقار الذي قدم عام 1948 فيلم "فتاة من فلسطين" من إخراجه وكما يشير العنوان أن فلسطين حاضرة منذ بدايات الصراع مع إسرائيل وأن المرأة الفلسطينية التي احبها الضابط المصري ترمز بوعي إلي أن العلاقة مع الارض موضوع النزاع القائم مازالت تشكل جزءاً عضويا في عقلية المقاتل المصري.. وتكرس صورة الضابط باعتباره المجاهد في سبيل الله كما تقول الاغنية الشهيرة التي غنتها سعاد محمد في الفيلم. وتجلت صورة "الجيش" وحضوره لدي صناع السينما في أفلام اسماعيل ياسين التي أخرجها فطين عبدالوهاب وجعل عنصر الضحك والفكاهة والشخصية الطيبة سليمة النية التي عادة ما يبتسم لها الحظ وان تأخر وصوله. جعلها الجسر الجذاب والمريح إلي المؤسسة العسكرية بأسلحتها المتنوعة في الجيش والبحرية والطيران والاسطول والبوليس الحربي.. صحيح أن هذه الأعمال في مجملها أعمال خفيفة ومسلية وضاحكة ولكنها دون شك زرعت في نفوس الصغار عشاق هذا النجم الكوميدي محبة تلقائية لهذا المجند وللمؤسسة التي يشتبك معها ويخرج منها كامل اللياقة وموفور الحظ. أفلام اكتوبر من المفارقات اللافتة أن السينما المصرية لم تكن بأي حال علي مستوي الحدث الاكبر في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي وأشير إلي انتصار أكتوبر العظيم حيث بدت الأفلام التي عالجت الحدث أو بالاحري ادعت انها افلام عن حرب اكتوبر. بدت أعمالا تجارية ميلو درامية ضعيفة تتناول حكايات عاطفية ضحلة ومصطنعة يضاف اليها بافتعال شديد دقائق عديدة لمشاهد من الارشيف تصور اجزاء من الحرب ورفع العلم علي خط بارليف. واشير بصفة خاصة إلي أفلام "الوفاء العظيم" "1974" للمخرج حلمي رفلة عن قصة لفيصل ندا. وفيلم "بدور" "1974" عن قصة لنادر جلال ومن إخراجه وفيلم "حتي آخر العمر" "1975" للمخرج أشرف فهمي وفيلم "لعمر لحظة" "1978" للمخرج محمد راضي وبالنظر إلي تاريخ الانتاج تجد انها أفلام كانت موجودة بالفعل. أو بصدد الانجاز وأضيف اليها علي استعجال مشاهد من الحرب لا تقدم ولا تؤخر من الحكاية الرومانسية .ذلك لان أفلام الحرب نوعية اخري تماما. وبناء فني قائم علي فكرة الصراع العسكري منذ الدقيقة الاولي للأحداث وأن صياغة المعارك بصريا وإعادة انتاجها بنفس الزخم وعلي النحو الذي جرت عليه حين وقوعها..هذه النوعية من الأفلام لم تعرفها السينما المصرية بحجة انها اعمال مكلفة وتحتاج ميزانية كبيرة وربما احتاجت ميزانية فعلا ولكن البديل ليس بالضرورة حكايات فارغة سخيفة تعالج بنفس العقلية التجارية عديمة الابتكار والتي تدور في إطار توليفة مكررة.. موضوعات وطنية كبري مثل حرب اكتوبر. ابناء الصمت هناك فيلم واحد يمكن الاشارة إليه ضمن الأفلام الجيدة التي حافظت علي فكرة الصراع العسكري وتناولته بقدر من الذكاء وانا اشير هنا إلي فيلم "ابناء الصمت" عن قصة لمجيد طوبيا وإخراج محمد راضي ويمكن في هذا السياق أن نذكر فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي" عن قصة لاحسان عبدالقدوس وإخراج حسام الدين مصطفي.. فالجيش هنا جزء لا يتجزأ من السيناريو ومن الحكاية التي عاشها البطل "محمود ياسين" وحاول المؤلف أن يجمع فيها بين الأرض والعرض كوجهين لقيمة واحدة هي "الشرف" وأعطي فكرة للثأر المتمثل في الرصاصة التي مازال يحتفظ بها البطل القادم من ميدان الصراع إلي موطن الحبيبة أعطاها أبعادا مختلفة تتجاوز فكرة الانتقام وإسالة الدم إلي الكرامة الوطنية وشرف الجندية والدفاع عن الحق. ارتبطت صورة الجيش كؤسسة أو كافراد انتظمت في صفوفه باجواء المرحلة التي يتم فيها انتاج الفيلم.. ففي حالات الاسترخاء ستجد الكوميديا والضحك المريح ولكن دون الاخلال بالهالة المقدسة لمفهوم العسكرية.. رأينا ذلك في فيلم "عبود علي الحدود" ومغامرات ذلك المجند البدين خفيف الروح علاء ولي الدين "الف رحمه علي روحة" ورفاقه ومنهم أحمد حلمي الذي اصبح لاحقا نجم نجوم الكوميديا. ملف سامية شعراوي وفي لحظات التوتر ستجد الصورة السلبية التي تسعي لإدانة عصر آخر غير ذلك الذي يظهر فيه.. فيلم "ملف سامية شعراوي" "1988" للمخرج نادر جلال حيث نعود من جديد للقصص الملفقة والمعاجلات المصطنعة والصورة السلبية التي تضم احدي الشخصيات العسكرية وتضع المرأة السوبر في الاطار الذي يكرس هذه الصورة.. فالفيلم تدور احداثه بعد هزيمه 1967 حيث يدور الصراع بين سامية شعراوي "نادية الجندي" وبين قائد في القوات المسلحة. وابان الثورات التي قادها الجيش مثل ثورة يوليه 1952 ارتفعت قدسية المؤسسة العسكرية والضابط إلي مستوي غير مسبوق. وكان رمز المؤسسة ممثلا في الزعيم عبدالناصر أشبه بالرسول المخلص من الفساد والثائر علي العبودية والاستبداد واصبح حلم الشباب ارتداء الزي الرسمي والانخراط في صفوف الضباط. علي عكس ماجري بعد النكسة "1967" والهزيمة التي مني بها الجيش. فيلم نادر ورغم كل ما جري من فوضي وتفكك وانقلاب اخلاقي بعد ثورة 25 يناير 2011 ورغم التآمر الذي كانت تنسج خيوطه خلف الكواليس. لم يكن هناك من سند للشعب المصري سوي المؤسسة العسكرية يتكئ عليها ويشعر بالامان في ظل حمايتها من قوي الإرهاب الاسود الذي بدأ يطل بوحشية. أين هذا العمل النادر؟ ومن المفارقات اللافتة أن البحث عن عمل تسجيلي يعالج الحرب والصراع العسكري مع العدو وأسفر عن فيلم نادر وغير مكتمل علي شبكة الإنترنت اتصور أنه من صنع المخابرات أو القوات المسلحة لانه يتضمن مشاهد فذة عن حرب اكتوبر ويرصد بالكاميرا لحظات جليلة من المعارك التي خاضتها القوات المسلحة في سيناء والطريف انه عمل مترجم إلي الانجليزية ويسجل عملية رفع العلم وعبور الدبابات البرمائية وخراطيم المياه التي هدمت الخط الحصين وصعود الجنود حتي اعلي درجة منه لمهاجمة الجنود الاسرائيليين.. مشاهد الدبابات والطائرات التي تخترق السماء في مسار تم التخطيط له.. بالإضافة إلي صور الدخان وضباب الرمال الناعمة المتصاعدة الناجمة عن زحف الآليات العسكرية الثقيلة فوق الأرض الصحراوية.. كلها مناظر تم التقاطها في مشاهد جميلة وصور نقية واختيار سليم وجيد للكادرات والانتقال المدروس من مشهد عسكري إلي غيره بالإضافة إلي الموسيقي التصويرية التي تضاعف من هيبة المشاهد وقوة وقعها.. ايضا الوجوه القريبة لجنود العدو الذين تم أسرهم. وجثثهم فوق الرمال وعلي رءوسهم خوذات عليها نجمة داود وبكاء الامهات اليهوديات.. مشاهد حقيقية فعلا لاعدام الجواسيس في حرب اكتوبر.. هذه المشاهد معروضة تحت عنوان "فيلم نادر". فهل سبق عرضها في التليفزيون علي الجمهور المصري؟؟ هنا تتجلي صورة الجيش كمؤسسة وأفراد بأمانة ومصداقية عالية وفي أثناء الفعل العسكري من دون ادني صنعة.. الصنعة فقط في التصوير الجيد وفي توليف اللقطات واختبار التشكيل داخل اطار الصور.. لقد طبعت ترجمة علي الفيلم توضح ما يدور بالفعل عمل ممتاز ونادر وسط الاعمال الاخري وكلها اعمال روائية اما التسجيلي فهو نادر. في "الطريق إلي ايلات" قدمت المخرجة انعام محمد علي بورتريهات قوية وكاشفة عن معدن الضابط المصري المسئول اثناء مهمة عسكرية تاريخية وهي اغراق المدمرة ايلات.. فيلم يستحضر الروح القتالية وجوهر ما يمثله "العسكري" المصري ايا كانت رتبته وقد حاولت المخرجة أن تمسك بجوانب الصورة الشخصي منها والموضوعي في حياة كل من قاموا بالمهمة ومنهم من لقي حتفه اثناء العملية ومنهم من عاد بعد أن انجز المهمة. الطريق إلي ايلات من انتاج الإذاعة والتليفزيون وربما كان لذلك السبب احد افضل الأفلام التي ترسم صورة صادقة عن المؤسسة العسكرية في احد تجلياتها المشرفة.. صورة الجيش في السينما مازالت غير كاملة.