ليس عندنا قانون لمحاكمة الفساد السياسي.. هذه حقيقة.. ولكن عندنا بالتأكيد قانون لمحاكمة اغتصاب السلطة دون سند شرعي.. وتلك هي التهمة التي يجب أن يحاكم عليها جمال مبارك المحبوس حالياً علي ذمة قضايا الكسب غير المشروع واستغلال النفوذ. والهدف من محاكمة جمال مبارك بهذه التهمة الجديدة ليس التشفي والانتقام من أسرة لم تعد تمتلك من أمرها شيئاً وإنما ردع كل من تسوّل له نفسه مستقبلاً أن يعبث بالسلطة في هذا البلد بدون الحصول علي تفويض من الشعب عبر صناديق الانتخابات .. وبدون أن يكون مؤيداً من الدستور. لا بد أن يدرك كل من علي هذه الأرض أن الشعب المصري استيقظ من سباته العميق والطويل ولن يسمح لأحد أن يتلاعب بإرادته أو أن يعبث بمقدراته.. حتي تحذر زوجة الرئيس القادم وأبناؤه وأقاربه وحاشيته من ممارسة السلطة معه أو نيابة عنه.. فالشعب سوف يحاسبه علي ذلك ويحاسبهم حساباً عسيراً. وقد حملت الصحافة المصرية علي مدي اليومين الماضيين ما يمكن أن يشكل عريضة اتهام لجمال مبارك باغتصاب سلطة الرئاسة وممارستها دون وجه حق ودون تفويض شعبي استناداً فقط إلي وضع والده ونفوذه ومنصبه.. وهو ما يؤكد أنه لم يكن ينتظر انتقال السلطة إليه وتوريثه الحكم.. وإنما كان يمارس السلطة والحكم فعلياً برضا ومباركة من والده أو من وراء ظهره.. وهذا بالضبط توصيف الجريمة التي يجب أن يحاكم عليها جمال ووالده إلي جانب الجرائم الأخري.. حتي يدرك المصريون أنهم ليسوا مالاً ولا متاعاً يورث من الحاكم لابنه.. وإنما هم شعب كريم أصيل له صوت وله إرادة.. وهو الذي يختار حاكمه ويحاسبه إذا أخطأ. ما حملته الصحف خلال اليومين الماضيين يمثل شهادات من شخصيات محترمة علي أن جمال مبارك انتهك الدستور والقانون وتجاوز حدود اختصاصاته كأمين للجنة السياسات بالحزب الوطني واعتدي علي سلطة رئيس الجمهورية محاولاً اغتصابها لنفسه. û الشهادة الأولي قدمها الكاتب الكبير محفوظ الأنصاري في مقاله بجريدة الجمهورية أمس الأول -الخميس- وهي عبارة عن مضمون مكالمة تليفونية غاضبة من جمال مبارك قال فيها: * إذا تحدث معك أبي -الرئيس- استمع إليه ولا تنقل عنه.. فهو لا يعرف. وما يقوله غير صحيح. * كل ما كتبتموه عن الدستور وتعديلاته علي لسان الرئيس غير صحيح.. وستحدث التغييرات بأسرع مما تتخيل. * علي فكرة.. اسمع أنت وزملاءك الصحفيين.. الجلسات المطولة والمفتوحة التي يعقدها الرئيس معكم انتهت ولن تتكرر. * أيضا الأحاديث التليفونية التي تجرونها مع الرئيس بلا ضوابط وتخوض في كل شيء ستتوقف ولن يسمح بها بعد الآن. أضاف الأستاذ الانصاري شهادة أخري إلي ذلك مفادها أن الذي أجري التغييرات الصحفية عام2005 كان جمال مبارك وتم الدفع بزكريا عزمي لإجراء الاتصالات مع رؤساء المؤسسات ليترك انطباعاً بأن القرارات القادمة قرارات رئاسية تعكس إرادة الرجل الكبير وتمثل اختياره الشخصي.. كما شارك صفوت الشريف في هذه التغييرات ليؤكد أنه الرجل المسئول عن الاعلام وأنه شريك أساسي في اللعبة. û الشهادة الثانية قدمها علي صفحات "الأهرام" أمس الدكتور طلال عبدالمنعم واصل خبير الأمان النووي بأمريكا وأحد العلماء المعدودين في العالم في بحوث الصواريخ النووية عابرة القارات وبحوث الأقمار الصناعية للاستخدامات السلمية والعسكرية وبحوث الطاقة المتجددة.. ثم انه قبل ذلك كله ابن الفريق عبدالمنعم واصل قائد الجيش الثالث الميداني خلال حربي الاستنزاف وأكتوبر المجيدة. يقول الدكتور طلال في شهادته أنه بعد أن أعلن الرئيس مبارك أن مصر ستعلن عن مناقصة لبناء مفاعل نووي حضرت إلي مصر علي وجه السرعة وقابلت الدكتور زكريا عزمي وشرحت له خبرتي وتخوفي ورأيي في الخطوات التي يجب أن تنفذ قبل طرح أي مناقصة عالمية.. وطلبت مقابلة الرئيس السابق مبارك للتأكد من وصول رسالتي إليه.. وبعد عدة مقابلات أخبرني عزمي أنه من الأفضل مقابلة جمال أولاً. فوافقت وجلست معه أكثر من ساعة أوضحت له مقترحاتي وتخوفي والطريقة المثلي لطرح المناقصة.. وبعد نقاش طويل فوجئت بقوله إن اختيار المصدر في الغالب سيكون قراراً سياسياً.. فأوضحت له أنه من الخطورة في مجال الطاقة النووية تدخل السياسة في تكنولوجيا خطيرة قد تؤدي إلي كارثة. û الشهادة الثالثة جاءت علي لسان د. أسامة الغزالي حرب رئيس حزب الجبهة الديمقراطية في حديث مع جريدة الأخبار نشرته أمس وأكد فيه أن عملية التمهيد للتوريث كانت تجري علي قدم وساق قبل ثورة 25 يناير حيث بدأ جمال مبارك بالفعل في التدخل في كل كبيرة وصغيرة في البلد. أضاف: "أعتقد أنه الآن في ذهول تام من وجوده في السجن.. وهذا ما يفسر ما يقال عن حالة الاكتئاب التي وصل إليها وفقدانه لنصف وزنه.. ولا ننسي أنه بعد تشكيله حكومة رجال الأعمال في عام 2005 كان هو الآمر الناهي.. لم يكن أحد يعارضه.. وكان الجميع في خدمته.. لقد كانت حقبه مظلمة في تاريخ مصر". û أما الشهادة الرابعة فقد أدلي بها الدكتور محمود شريف وزير التنمية المحلية الأسبق في حوار مع "الأخبار" نشرته أمس أيضاً وقالت فيه إن المجموعة المحيطة بالرئيس السابق نجحت في عزله عن الناس بحرفية عالية.. وهي التي كانت تتصرف في أمور الحكم.. ويرجع ذلك إلي رغبتها في الاستفادة من هذا الوضع.. أضف إلي ذلك أن الفترة المرضية التي عاني خلالها مبارك قد زادت من هذا الابتعاد.. ثم بعد وفاة حفيده أظن أن علاقته بوظيفته كرئيس للجمهورية قد انتهت تماماً. والمغزي الذي نخرج به من هذه الشهادات أن جمال مبارك وشلته استطاعوا أن يسيطروا علي أمور ومقدرات البلد.. وأن جمال مبارك شخصياً قد تمكن من الإمساك بكل خيوط السلطة بمباركة أبيه أحيانا ومن وراء ظهره كثيراً.. وهذا في حد ذاته يمثل عريضة اتهام للاثنين معاً.. الأول بتهمة اغتصاب السلطة والثاني بتهمة التفريط في الأمانة التي في عنقه. وهناك بالتأكيد شهادات كثيرة مازال أصحابها يمسكون عن الإدلاء بها للتدليل علي أن جمال مبارك اغتصب السلطة في وجود أبيه.. لكن هذه الشهادات حتما ستظهر في يوم ما عندما تستيقظ الضمائر النائمة.. وتقدم مصلحة مصر ومستبلها علي أية مصلحة أخري. إشارات : * الذين يحاكمون اليوم في موقعة الجمل لم يكونوا يدافعون عن مبارك ولا عن النظام. وإنما كانوا يدافعون عن الفساد.. وعن أنفسهم ومصالحهم. * الثورة نجحت .. التغيير لم يحدث. * المظاهرات والاعتصامات التي تقطع الطرق وتعطل مصالح الناس وتعذبهم تؤكد أن الفوضي هي التي تحكمنا وليس القانون ولا الحكومة. * تمليك 3700 فدان بتوشكي لأبناء النوبة قرار حكيم ولكن الأهم أن يزرعوا الأرض ولا يتاجروا فيها.