أمينة في "الثلاثية" ومنال "دار السلام".. فارق بين الزوج المستأسد والمضروب بالكرباج!! منذ أقل من مائة سنة بسنوات قليلة. تحديداً عام 1919 وفر لنا الخيال الروائي فسحة من التفكير المقارن بين ما كان وما نحن فيه الآن.. أول أمس عرض التليفزيون فيلم "بين القصرين" المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ بنفس الاسم.. أحداث الفيلم تدور في الربع الأول من القرن العشرين ومصر تحت الحماية. الإنجليز ينتشرون زي الجراد في الشوارع. وموكب تنصيب الأمير محمد فؤاد سلطانا علي البلاد في خلفية المشهد. وفي مقدمته يقف طلبة الجامعة ومنهم فهمي عبدالجواد وصلاح قابيل الشاب الوطني دارس القانون. يقف وسط مجموعة من الطلبة أعضاء الجمعية الوطنية السرية لمقاومة الاحتلال يعرب عن غضبه واحتجاجه لما آلت إليه مصر ويطالب بالمقاومة لأن الموت أفضل من الحياة تحت الإحتلال "وشجرة الحرية لا تروي إلا بالدماء". الطلبة بهيئتهم المحترمة "الكلاسيكية" يرتدون الطرابيش والبدل ويضعون الكرافتات أربطة العنق أو "البابيونات" ويتحدثون لغة رصينة وبجمل عربية سليمة. ويكشفون عن وعي يقظ بأحوال بلادهم حيث "الباشوات" يعيشون في النعيم والعبيد والفلاحين يزرعون الأرض. والأتراك يجدون في مصر مرتعاً وحكماً وتحكماً. المناخ السياسي.. حسب الفيلم الذي يعبر عن مرحلة من مراحل التطور السياسي يحتل فيها الزعيم سعد زغلول قلوب وعقول الشباب الثائر الذي يسعي إلي تجنيد البسطاء أبناء الطبقة المتوسطة الصغيرة. وطبقة المهمشين من الباعة الجائلين ومن الطلبة المدركين لقيمة الحرية والاستقلال الوطني ولحتمية الخلاص من المستعمر الإنجليزي وأعوانه من طبقة الباشوات الاقطاعيين المحليين. الأحداث تدور في منطقة الجمالية والحسين ذلك الحي الشعبي الأصيل الذي ينطوي علي جوهر خصال المصريين وتقاليدهم وقيمهم الباقية التي تشكل جزءا لايتجزأ من صميم تكوين الإنسان المصري. المنطقة التي جمعت فهمي عبدالجواد ابن السيد أحمد عبدالجواد "سي السيد" وأشقائه ياسين وكمال وهذا الأخير سنتابع مسيرة حياته في الجزء الثاني من الثلاثية "قصر الشوق" أقول ان هذه المنطقة هي نفسها منطقة الحسين والأزهر الآن الذين يقصدون العلم في نفس هذه المنطقة التاريخية التي تحتل مكاناً راسخاً قديماً وحديثاً.. تخلصت مصر من الاحتلال وعاشت ثورات تتجاوز في عنفوانها وزخمها ثورة 1919 التي استشهد فيها "فهمي" وترك جرحاً عميقاً في أسرة "سي السيد" ثم مصر وقد صارت تحت الإحتلال الإخواني حيث جماعة الإخوان المسلمين طوال سنة من حكمهم أكثر من دموية وفوضي. والشباب ومعهم الطلبة يظهرون بهيئتهم وصورهم ونشاطاتهم التخريبية. تسيطر عليهم نزعاتهم العدوانية. وبأشكالهم وهيئتهم هذه لا يمكن مقارنتهم بأي حال ومن أي زاوية نظرا لهؤلاء الطلبة الذين لعب أدوارهم صلاح قابيل "فهمي" وعزت العلايلي "إبراهيم" وآخرين إلي جانب رجال الدين المسيحي ونفر من أساتذة الجامعةإلخ.. والمقارنة هنا ليست مصطنعة وإنما بدت عفوية فالفيلم يعبر عن مصر في حالة فوران وانتفاضة ضد المحتل يتقدم صفوفها الطلبة. طلبة الجامعة وتلاميذ المدارس والنساء اللائي رفضن صورة الست "أمينة" "آمال زايد" الخانعة زوجة سي السيد. والمشهد الذي أداره المخرج الراحل حسن الإمام مازال هو المشهد المرجع لثورة 1919 كلما أردنا التعبير عن تلك الثورة. المقارنة بين ما جري لمصر تحت الاحتلال الإنجليزي والمقاومة الوطنية ضده تفرض نفسها. ففي الحالتين يتصدر الشباب المشهد.. وفي الحالتين يلفت النظر الصورة البائسة للمرأة المصرية من نموذج أمينة. وعائشة. وخديجة ثم جليلة العالمة وزبيدة الراقصة الخ المرأة المستكينة المنسحقة تحت سيطرة وجبروت رجل بوجهين "الورع الداعر" والمرأة الغانية المذلة بكسر الذال للرجل بسيطرتها علي شهواته والإمساك بزمام عريزته الأولية. ولو قفزنا علي صور المرأة في ظل الاستعمار الإخواني بعد مائة عام تقريبا سنجد صور "الحرائر" و "فتيات الساعة 7" ونموذج طالبات الأزهر شبه المتوحشات وأم أيمن.. إلخ إلخ "المرأة" الإخوانية النقيض الكامل للست أمينة". مصر في "بين القصرين" حسب الفيلم الذي تم انتاجه عام 1964 كانت تتوقع ميلاد عصر جديد. بعد ثورة تحرير لم تتحقق أملها المنشود في كامل الاستقلال في حين تحقق هذا الأمل بعد ثورة 1952. وما جري بعد ذلك معروف حتي وصلنا الي ما نحن فيه الآن. ومصر الآن تتوقع تحريرا من نوع مختلف جذريا.. تحررا من تخلفها ومن تبعية بعض ابنائها لاستعمار ايدولوجي وفكري ليس بعيدا عن الاستعمار الاجنبي العسكري التقليدي الذي مثل فترة في حياة الشعوب المستعمرة. مصر الآن تقاوم حربا قالوا عنها انها الجيل الرابع من الحروب.. وهذه الحروب تحتاج جيلا آخر يقاومها غير جيل فهمي عبدالجواد وزملائه في مرحلة "بين القصرين" وبعده "قصر الشوق" وحتي "السكرية". تيار الوعي لا يتوقف وكذلك الأفكار وأنت تتابع فيلم حسن الامام ملك الترفيه المرئي وهو لقب يستحقه بجدارة. والترفيه في "بين القصرين" وفي افلام حسن الامام تحديدا وضع الاساس الذي طوره من جاءوا بعده وبذوق تعبر عنه المراحل المختلفة في التطور الاجتماعي. الفارق أن راقصات ومطربات ذلك الزمن كن أقل ابتذالا ربما راقصات هذه الأيام يختلفن عن "جليلة" و"زبيدة" و"وزنوبة" في كونهن أكثر جسارة في كسر الكوابح الاجتماعية وقواعد اللغة السوقية للوصول بها الي أدني مستوياتها الفارق بين عوالم "سي السيد" ومحظياته يظهر في أغنية "سي السيد" "2014" لواحدة اسمها "شاكيرا" في فيلم "بنت من دار السلام" وهو نفس الفارق بين بنات حي الحسين في "بين القصرين" وبنات دار السلام في الفيلم المذكور الفارق مروع ورهيب علما بأن بطلة الفيلم "راندا البحيري" خانعة وذليلة لرجل شاذ جنسيا يتلذذ بضرب الكرباج ومع اختلاف "الاستعمار" من الاجنبي إلي المحلي ومن الدولي الي الاقليمي ومع اختلاف مستويات الانحدار والتراجع الاخلاقي والقيمي والانساني اختلفت مستويات الترفيه السينمائي واختلفت ملامح الإغراء الحسي. واختلفت حتي التشوهات اضيف اليها المستورد والمضروب والمصنوع في مواخير تتفوق علي ما كان في زمن السيد أحمد عبدالجواد وزمن الحرب. فيلم "بين القصرين" يمزج عدة خيوط رئيسية في وصف تركيبة المرحلة التي تدور فيها الاحداث أعني مرحلة ما بين الحربين العالميتين الاولي والثانية فيمزج بين السياسي الوطني "فهمي عبدالجواد" وبين الاجتماعي "أسرة سي السيد وأصدقائه من تجار حي الجمالية" وبين الترفيهي الحسي الخاص "العوالم والمطربين وعوالمهم" وينتقل بالتوازي من حالة "سي السيد" الحزين والمهموم برؤية الانجليز وما يمثلونه من استعمار ثم بعد ذلك الحزين والمهموم باستشهاد ابنه. ومن هذه الحالة نفسها إلي حالته وهو غارق حتي أذنيه في الملذات الحسية في احضان الراقصات والغانيات ومن صورته كأسد يزأر ينشر الخوف في اركان بيته وابنائه وبناته وزوجته وكعربيد يتلذذ بالتودد الي زبيدة وجليله الخ.. ومثله يفعل ابنه الاكبر ياسين "عبدالمنعم ابراهيم". في مشهد طريف ودال يفاجأ الابن "ياسين" بينما يمضي وقته مع زنوبه الغانية الراقصة يفاجأ بوالده الوقور الصارم وقد أمسك بالرق وراء "زبيدة" مها صبري وراح يغني ويرقص وأمام هول المفاجأة نسمعه يقول في نولوج سريع يخرب بيتك يابابا هو أنت كده جملة هوه انت كده تحمل في ثناياها الكثير المعبر عن جوهر شخصية "سي السيد"!