يبدو أنني قد بدأت أفيق من حالة النشوة Euphoria التي انتابتني منذ بداية الثورات العربية. ويبدو أن سحب الدخان الملون ومناظر الألعاب النارية المبهرة التي صاحبت هذه الثورات قد بدأت تتلاشي وتتواري من أمام ناظري لتحل مكانها صور الدخان الأسود ومناظر الدمار وروائح الجثث التي تصيب الإنسان بالاكتئاب. وتجعله يتوجس خيفة من القادم المجهول! ويساروني إحساس بانفجار "بالونات الحرية" بعد أن ظلت تداعب خيالي وتدغدغ مشاعري وتحلق بي إلي آفاق عالية وتفتح الفضاء الفسيح أمام آمالي وأحلامي وتطلعاتي لمستقبل الشعوب العربية. الأحلام- في رأيي- بدأت تتحول إلي ما يشبه الكوابيس.. والثورات انقلبت إلي ما يشبه "موالد شعبية" ممتدة من المحيط إلي الخليج! وكما نعلم. فإن المولد تكثر فيه عمليات السرقة والنشل والنصب وألعاب النرد و"التلات ورقات" وتنتشر فيه خيام الأراجوزات والكباريهات البلدي التي ترقص فيها "العوالم" وتعقد فيها صفقات النخاسة والنجاسة بكافة أنواعها وأشكالها! ولما كانت الثورات العربية بلا قائد ولا قيادات. فقد أصبحنا في "مولد وصاحبه غايب".. لكن فليستمر المولد ولتستمر "الثورة" ولتفرح الجماهير أو لتقتل.. ولينتشي البعض أو ينحني ظهره من ثقل الهموم.. وليقفز البعض علي أكتاف الثورة أو لتدهسه الأقدام.. المهم أن يستمر المولد! وإذا كان يقال إن الشعوب- أو الجماهير- هي التي تقود تلك الثورات.. فمن الذي يقاد إذن.. خصوصاً وقد اختلط الحابل بالنابل. كما يقولون ولم نعد نعرف من هو علي حق ومن هو علي باطل وأصبح كل طرف يدعي أنه وحده يملك مفتاح الحقيقة! لا شك.. أن هناك من يحرك الأحداث. سواء من علي خشبة المسرح أو من خلف الكواليس.. أو حتي بالريموت كنترول من واشنطن ولندن وباريس وروما.. ومازالوا يمارسون الدجل ويطلقون بخور الحرية الموهومة أو المزعومة. لكني أشعر بأن هذا البخور بدأ يتبدد في الهواء.. وأخشي من أن نجد أنفسنا أمام ديكتاتوريات جديدة ترث سابقاتها وإن ارتدت ثياباً غير الثياب ووضعت أقنعة غير الأقنعة! أخشي.. أن يتبدد "بخور الحرية" الذي يطلقه لنا الغرب من خلال ما يسمي بالفوضي الخلاقة.. فالغرب لا تهمه حريتنا "الحقيقية" فحريتنا الحقيقية ربما تحمل في طياتها مخاطر كبيرة علي مصالح الغرب الذي يهمه. بالدرجة الأولي. استمرار حالة الضعف التي نتردي فيها.. وتأمين تدفق الثروات العربية علي بنوكه وخزائنه ومصانعه.. ولا مانع من أن يستمر "المولد" بما يحيط به من موبقات وكباريهات وحلقات ذكر وموائد قمار! ربما يتصور البعض أنني أبكي أسفاً علي "القادة العظام" الذين تمت الإطاحة بهم من فوق عروشهم.. أو أولئك الذين بدأت عروشهم تهتز من تحتهم! حاشا.. وكلا..! هؤلاء وأولئك لا يستحق أي منهم كلمة رثاء واحدة.. فلا فرق بين صدام ومبارك وبن علي والقذافي وبشار وعلي صالح وغيرهم ممن مارسوا ويمارسون الدجل السياسي علي شعوبهم! ربما يتصور البعض أنني ضد الثورات العربية.. أو ضد ما تبشرنا به.. من آمال وتطلعات ومستقبل أفضل ! حاشا.. وكلا..! كل ما أخشاه أن يقفز المتسلقون والانتهازيون علي أكتاف الثورة وينحرفوا بها عن المسار المنشود! علينا أن ننتبه إلي لصوص الزحام.. وعلينا أن ننتبه لمثيري الفوضي.. ففي ظل انشغال الجميع وتزاحمهم علي اللهو في مولد الثورات العربية. تقوم إسرائيل بإتمام عملية السطو علي القدس من خلال التوسع الاستيطاني فيها وهدم معالمها! وخلال زحام المولد.. يقوم الغرب بعملية سطو جديدة في المنطقة.. ويسعي إلي بسط يده علي ليبيا الغنية بالبترول. بعد أن استولي علي بترول العراق.. وبعد أن ضمن بترول الخليج! المهم.. أن صاحب المولد "غايب".. أو "مُغيب" والمفروض ألا يكون كذلك!