البداية الأولي (الإسكندرية - ميدان المنشية - جمعة الغضب.. ينقطع الاتصال، الحواجز هنا وهناك، عنف، دخان أبيض يملأ الأفق يصيب العيون ويلهب الصدر، الحصي في كل مكان ودخان أسود لعربات محترقة يحجب لون البحر.. رصاص مطاطي صوته يخترق الدخان فوق الرأس وللعمر بقية، الشرطة تتساقط أركانها، دماء.. غزة أخري تولد أمامي، فوضي، مجهول). البداية الثانية (أذن طينية لا تسمع، تدفع مظاهرات مليونية أمام قصر رأس التين، صقيع هواء البحر لا ينفع لتفريق شعب مرصوص كبنيان يشد بعضه بعضا، نسيج واحد لا ألوان فيه، الشوارع رؤوس لا تمر خلالها حبات المطر، قنبلة فرح تنفجر وسط الجموع حين إعلان التنحي، صيحات سعادة، زغاريد، سجدات وصليب، أحضان وقُبل، أمل). مازلت مثل ريشة في مهب ريح الثورة.. فوار المشاعر، متأرجح بين البدايتين.. خيالي الجامح لم يتوقع - منذ لحظتي الأولي للمشاركة - هذا الانتصار الذي حققه الشعب. كنت أري ثورة مكتملة، الشباب شرارتها الأولي والشعب حائط بطولتها، ثورة آتية من إنسان كامل.. إنسان تعلم قيمة الحرية ووعي معني الصمود والتحدي والتعاون.. هضم تجارب الشعوب قبله وكتب التاريخ.. أنجز في أيام معدودة ما لم تنجزه أجيال حضارات عظام.. هزم كل الخوف حين سالت دماء شهدائه فتزين وتألق معدنه، فتراتي الأخيرة لا أنكر فيها يأسي واهتزاز إيماني بالوطن ومواطنيه ونفسي، إلا أننا كنا جميعا داخل لحظة يسطر التاريخ فيها سطر حاسم، لحظة نودي بأنا إذا اقتربنا احترقنا وإذا وثقنا انطلقنا.. وكان الوطن كله بجميع طوائفه رهن اختبار، مصلوب الأطراف والذهن والإحساس، فلا فكاك من المجهول إلا بالثبوت، كل الألاعيب طاش سهمها وكل مفردات الفساد جربت شراستها في جسد الوطن فخابت وبدأت تنسحب من المشهد لتمارس عادتها العلنية (الخبث) إلي أن هطلت السماء بالمطر فبردت حرارة نيران الصدور تمحو كل الزيف حولنا، فنهب نحو صحوة لضمير براءتنا التي شوهها القمع والاستبداد.. حتي الأحلام كانوا يبخلون علينا بها إلا أن للأفكار دوما أجنحة قادرة علي المراوغة والفرار حتي التحقق. كل هذا الضيق.. كل هذا الغش، الفساد والقهر تسحقه إرادة شعبية بسيطة وطاهرة وحقيقية وتنقل بدماء أولادها (ورد الجناين) تنقل مصر إلي مساحة تليق. مازلت كشوكة رنانة، أطن، ويطربني العزف ولا أمل من تكرار التأمل، تأمل المارد الكائن فينا حين أبهرنا العالم بثورة بيضاء فاقت أعظم ثوراته وأنقاها.. ثورة تضعنا علي طريق لا يسمح بالتمهل ولا يقبل التراخي، فلا مكان إلا للمعادن الأصيلة. والآن صباح جديد يشق الستار الأسود، ينير الروح وتسبح فيه الأنفس بين رائحة عطرة تملأ السماء، رائحة الشهداء التي علمتنا من نكون وأطلقت حريتنا. وسيم المغربى - قاص