في البداية أسجل تقديري لمخرج ومؤلف فيلم "هاتولي راجل".. ذلك لأنهما "محمد شاكر خضر وكريم فهمي" تشاركا في صياغة عمل يتحدي التوليفة السائدة. فلا يعتمد علي الرقص البلدي وأجساد الراقصات ولا الطرب الشعبي المحفز للغة حسية تخاطب الغرائز الأولية للمتلقي. كما انه لا يعتمد علي العنف الدموي والاشتباكات بالأسلحة البيضاء ورغم هذا كله يقدمان عملا ناجحا في إطار التيار التجاري دون فذلكة ولا انشغال بالشكل علي حساب المضمون. أو بالفن علي حساب الصنعة والتجارة. ووسط ما يسمي بأفلام العيد يتميز هذا العمل الأول لمخرجه بأنه تجاوز الهبوط السائد علي المستوي الفني دون أن يهبط بالإيرادات. فهو الأكثر رواجا أو لعله ضمن الأعمال الناجحة. والأهم أنه الفيلم الذي من الممكن أن ينتقل من الشاشة الكبيرة في دار العرض إلي الشاشة الصغيرة في البيوت من دون اساءة إلي الأسرة أو الأجيال الصغيرة التي تتابع برامج التليفزيون دون رقيب. يعالج "هاتولي راجل" حكاية خيالية تفترض وجود مجتمع تسيطر عليه النساء بالكامل وتحتل جميع الوظائف فيه. بينما يقوم الرجل بالأعمال المنزلية ويخضع لأوامر المرأة صاحبة العصمة والآمر الناهي في البيت والنادي وأقسام الشرطة والشارع وحجرات النوم! وهذه الفرضية الخيالية تنطوي علي إدراك واقعي لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة حسب الفهم المحافظ لهذه العلاقة في مجتمعاتنا ووفق الموروث الثقافي والاجتماعي المتجدد في الثقافة الشرقية.. أعني المفهوم الذي يكرس مسألة التسلط الذكوري علي المرأة وباعتبار ان الرجال قوامون علي النساء.. حتي لو لم ينفقوا أو لم يؤدوا واجباتهم الزوجية ومسئولياتهم ازاء الأسرة أو ازاء المرأة في الحياة التي تجمع بينهما. الفيلم يعالج هذا المفهوم نفسه باستخدام وسيط الكوميديا الساخر في مجتمع نسائي تلعب فيه المرأة دور الرجل ويستحضر أشكال التناقض والمفارقات الهزلية ويلقي الضوء علي المواقف الناجمة عن قلب المفاهيم وانقلاب الأوضاع في علاقة تضع الرجل في دور المفعول به وليس الفاعل وفي هذا السياق الطريف يوظف صناع الفيلم نوعا فنيا يخدم هذا السياق وأعني "المحاكاة" أو تعرضت فيها المرأة للاغتصاب في نظام سياسي استبدادي كما جري مثلا في فيلم الكرنك. أو جسدت مفهوم العذرية وأهمية أن تظل الأنثي في المفهوم الشعبي "بنت بنوت" في فيلم "هاتولي راجل" ينقلب هذا التعبير إلي "ولد ولود" أي عذراء لم تمسسه أنثي من قبل وحين يحدث ذلك رغما عنه ينهار في البكاء أمام صديقته التي تغتصبه بعد أن تغويه بشرب الخمر.. والمشهد يعتبر من أظرف مشاهد الفيلم يؤديه أحمد الفيشاوي "مجدي" باحساس كوميدي وبأداء تمثيلي جاد جدا يكرس عنصر المفارقة وهزلية الموقف وردود فعل الرجل. مثل هذه المفارقات تجدها طوال الفيلم في كثير من المواقف التي تجمع الرجل والمرأة.. والمواقف نفسها مرسومة بقوة ملاحظة وروح دعابة ظريفة وحوار مناسب وأسلوب متحرر من الافيهات المبتذلة. فالفيلم بشكل عام "نظيف" وان كنت لا أميل إلي استخدام هذا الوصف. ولكن أمام انتشار ظاهرة الاسفاف والقبح الظاهر فلا بأس من هذا التوصيف. البداية تقول علي لسان الخبير الاجتماعي "عزت أبوعوف". إنه في عام 1945 اكتشفت مجموعة من الستات هرمونا يلغي خلفة الذكور وقامت بوضعه في مياه الشرب. فانقرض تدريجيا جنس الرجال وأصبحوا أقلية. وقتئذ لم تكن المرأة في حاجة للرجل سوي في حالتين اثنتين. حمل الأثقال والتناسل وحين أصبح الرجل بعد فترة طويلة من انتشار الهرمون مهددا بالانقراض وأصبحت الرجال هدفا للمرأة تتحرش به لإشباع حاجتها الجنسية. ومن أجل التناسل. أمام هذه الأوضاع المقلوبة افتتح هذا "الخبير" مركزا لاستعادة مكانة الرجل المفقودة وإعادة تعريف الرجولة التي ينبغي أن تتجاوز مجرد التلقيح أو اكتساب القوة الجسمانية التي تؤهله لحمل الأثقال. لأن الرجولة تعني الأخلاق الكريمة والشجاعة والمسئولية الاجتماعية. فالفيلم نوع من الخيال الاجتماعي وليس الخيال العلمي. ومن المعالجة الفقدية الكوميدية للأوضاع الظالمة في علاقات ليست متكافئة. فالمؤلف يدعو ضمنيا للمساواة بين الرجل والمرأة. ويطالب بضرورة العودة إلي "الطبيعة" الخاصة بالأدوار المنوط بها كلا الجنسين "الرجل والمرأة" ورغم ذلك فإنه يعود بوعي أو من دون وعي إلي الانحياز للمجتمع الذكوري في النصف الثاني من الفيلم. والنهاية المرحة والمريحة بصريا لمشاهد الفرح والاحتفال بالزواج الطبيعي داخل أحد الفنادق الجميلة المطلة علي النيل.. هذه النهاية تكرس مع تعديل اجتماعي طفيف للمجتمع الذكوري وتعيد المرأة إلي الدوران ثانية في فلك الرجل "الذكر" ولكن بدون ضرر ولا ضرار.. وإنما في التبات والنبات ويخلفوا صبيان وبنات. ولا أخفي انها النهاية السعيدة الوحيدة المقبولة في هذا المجتمع الشرقي نفسه.. حتي لو نجحت المرأة في دور ضابط الشرطة. أو دور المديرة في مؤسسة مالية. أو مخرجة الإعلانات الناجحة أو كسائقة تاكسي.. أو في مواقف الأكشن التي تتطلب قوة جثمانية. ذكاء المؤلف انه زرع هذه الفرضية الخيالية التي يؤسس عليها الأحداث في مجتمع الطبقة المتوسطة المصرية المتعلمة لأن هذا الخيال لا يناسب أي شريحة أخري اجتماعية سواء الطبقات الدنيا الشعبية.. الأمر الذي يجعل الفيلم أقرب إلي المسخرة في "Farce" ولا الطبقة المحظوظة الارستقراطية. والا بات ثقيلا وغير محتمل منطقيا فالخيال الاجتماعي في هذا السياق ووسط هذه الشخصيات المختارة يبدو منطقيا جدا. خصوصا مع توفيق ملحوظ في عنصر التشخيص واختيار طاقم الممثلين ومع الإدارة الفنية الناجحة في الجمع بين السخرية والمحاكاة والأداء الطبيعي والعفوي لشخصيات من الممكن أن تتوحد معهم وأن تستحضر أثناء الفرجة نظائرهم في المجتمع المصري. الأداء التمثيلي في هذا الفيلم موزون بحرفية تراعي محتوي الشخصية وملامحها الإنسانية والسلوكية. شخصية أحمد الفيشاوي في دور "مجدي" الخجول "الولد الولود" الذي تربي مع خاله "أحمد راتب" الرجل التقليدي الذي يري في الاشتغال بالتمثيل دربا من الجحيم. بينما "مجدي" نفسه يحلم بأن يكون ممثلا برغم طبيعته الخجولة تشكل نقيضا لشخصية "عالية" "يسرا اللوزي" مخرجة الإعلانات التي تجذبه إلي عالمها المتحرر بقيمه الجديدة المعكوسة التي تضعها في مكانة مسيطرة تحاكي صورة من صور "الذكر" في المجتمعات التي تفرد للرجل مرتبة "سي السيد" دون منازع والاثنان يشكلان ثنائيا طريفا نتابعه بارتياح. ونفس المتعة الفنية تتحقق مع الثنائي "سيف" كريم فهمي و"دنيا" إيمي سمير غانم ومع الوجه الجديد ميريت في دور ضابطة الشرطة "هند" التي قدمت جواز مرور قويا للشاشة كممثلة متنوعة حاضرة بقوة في إطار عمل سينمائي مختلف عن السائد. رجاء الجداوي في هذا الفيلم ترتدي قناع المرأة المتصابية المتقدمة سنا والتي رغم ما جري من أوضاع في المجتمع مازالت "الأنثي" الحريصة علي استخدام الأدوار التقليدية للمرأة عندما تريد الإيقاع بالرجل. بشكل عام يعتبر الأداء التمثيلي من عناصر الفيلم الجيدة جدا. وبالذات بالنسبة لاختيار طاقم الممثلين والأدوار المتميزة التي اسندت إليهم.. واتوقف أمام دور "المومس" التي لعبها شريف رمزي الشاب الذي يؤجر ذكورته للزبائن من النساء شخصية طريفة لعبها بذكاء كوميدي عفوي ومن دون مبالغة. مشاهد عديدة في الفيلم تجمع في انسجام فني عناصر الأداء الكوميدي والتشكيل الجمالي للصورة ومن أول مشهد نلحظ الاستخدام الجيد للإضاءة والإحساس البصري في توزيع المفردات داخل مساحة الصورة "الكادر" ويلفت النظر عنصر الديكور وبالذات الديكور الداخلي ومصادر الإضاءة في شقة مخرجة الإعلانات عالية "يسرا اللوزي" وفي مركز إعادة التأهيل للشبان الثلاثة أبطال الفيلم. بداية الفيلم لافتة للانتباه تضع المتفرج منذ الدقائق الأولي داخل سياق يمهد لحالات إنسانية خاصة. وتجارب غير مألوفة في العلاقات وفي توازن القوي بين الرجل والمرأة. وأيضا أسلوب في الحكي يوازي بين الخيوط العديدة في الحبكة والأحداث دون فجوات من البناء القصصي. أو عند الانتقال بين حالة وأخري. ربما في الجزء الأخير من الفيلم عندما أراد المؤلف "كريم فهمي" أن يقوم بعملية دوران للخلف من أجل أن يستعدل الحال المايل في المجتمع النسائي الذي يصوره وبهدف هدم القيم المغلوطة والمعكوسة التي تحكمه منحازا للمجتمع "الأصلي" قبل اختراع "الهرمون" الذي يحول دون خلف الذكور بهدف سيطرة النساء علي العالم والاستغناء عن "الرجل" والإبقاء عليه كأداة للتناسل فقط وكموضوع للجنس. يطرح الفيلم إلي جانب موضوعه الرئيسي. مفهوم "التمثيل" والاشتغال في السينما في محاولة لتصحيح مفاهيم بالية ويستعين بالممثل "أحمد عز" الذي يظهر بشخصه ونيكول سابا التي تمثل في ذهنية المتلقي نموذجا جذابا للممثلة. في النهاية يعتبر فيلم "هاتولي راجل" رغم ايحاءات العنوان ودلالاته تجربة جيدة وعملا أول متميزا للمخرج.. وللممثلة ميريت وللمؤلف الممثل كريم فهمي ولفريق الفنيين صناع هذا الشريط المتناغم صوتا وصورة. ملحوظة أخيرة: الأغنية التي صاحبت النهاية جميلة وان كنت لم اتعرف علي الصوت ولا كاتب الكلمات.