نظلم فيلم "القشاش" لو حكمنا عليه من صور الإعلان التي نشاهدها في التليفزيون "زينة" الغازية أو الراقصة اللولبية المستوردة مجرد طعم رخيص يفتح شهية معظم الرواد القادرين علي انجاح هذه الشرائط بإقبالهم عليها.. وأسوأ ما في هذا الشريط تلك المناظر السوقية صوت وصورة التي يصدرها صناع الفيلم لجمهوره عبر التليفزيون وهي نفسها المناظر التي استفزت الجالسين أمامه في البيوت يتلقون إعلانات البضاعة التي تساهم القنوات التليفزيونية مع سبق الإصرار والترصد في الترويج لها وسوف يسهم لاحقا في حمل نفس هذه البضاعة للعرض علي الجميع في كل البلاد وسوف يستهلكونها ويرحبون بها ويسهرون في الفرجة عليها.. انه النفاق الاجتماعي المعهود. فهذه الراقصة اللولبية نفسها تحظي بسبب هذا الفيلم وبهذه الاعلانات المرفوضة بجماهيرية كبيرة وسط شباب التواصل الاجتماعي وأحيانا تصبح حديثهم الشاغل في المقاهي والجلسات الخاصة. هؤلاء الناس مصابون بحالات من الفصام القيمي والاجتماعي بين حكمهم النظري المصطنع وغير الأصيل وبين موقفهم العملي إزاء الشرائط السينمائية التي عرضت في العيد وأقامت الدنيا ولم تقعدها بسبب مشاهد الرقص ومشاعر الغضب والحملات المعادية التي تشنها البرامج الحوارية التي تبحث كالعادة عن جنازة وتشبع فيها لطما أو فرح وتملأ الدنيا زغردة دون أدني تأمل أو فحص لجوهر القتيل أو الميت أو أسباب الفرح وظروفه. "القشاش" مثل أفلام كثيرة تناقش الصراع بين الانسان وأقداره بين شاب يتيم لقيط لا يعرف أبويه ولم يحصل من الدنيا علي أي شيء وفي أثناء صراعه من أجل الحياة والنجاح يصطدم بقوي عديدة جدا باطشة ومتربصة مرئية وقدرية تحول دون تحقيق أبسط أمانيه في الحب والحياة والبراءة في جريمة لم يرتكبها. الفكرة من شأنها أن تصنع عملا دراميا أو ميلودرامي جيدا بشرط الوفاء لها "للفكرة" دون طرطشة لفظية أو اسفاف مرير ومن دون بحث عن أقصر الطرق لتحقيق الرواج التجاري وليس النجاح الفني.. فالرواج الجماهيري في صناعة الفيلم ترياق وشرط للاستمرارية. انه تذكرة مرور لمواصلة المشوار و"القشاش" مشروع تجاري مثل جميع الأفلام المعروضة وأيضا وسيط ترفيهي مشروط بمزاج المتلقي والترفيه المعتمد في السينما التجارية يفرض شروط السوق وأولها الخضوع للمزاج الشعبي السائد وأدوات المخرج لاشباع هذا النجاح "إناث" يجسدن الشهوة الحسية وبطرق تدخل تحت طائلة قانون الآداب العامة.. و"القشاش" يتضمن حورية فرغلي والراقصة النمرة صافيناز التي اعتمد عليها مخرج الفيلم "اسماعيل القاضي" في الدعاية "التريللر" فأثارت بلغتها البدنية المغرية المدعين بالحق المدني حراس الأخلاق مجانا وأسالت في نفس الوقت لعاب الشباب المراهق ونحن نعلم انه في غياب التعليم والوعي تصبح الغريزة بلا لجام. دور الراقصة في الفيلم لا يدخل ضمن الدراما وانما الاثارة الحسية مصدر الطاقة السلبية التي تتحول غالبا إلي فعل سلبي داخل دار العرض وخارجها. والأنثي الأخري "حورية فرغلي" كرست الإثارة إلي جانب التأكيد علي المصير الحتمي الميلودرامي لهؤلاء التعساء الباحثين عن مكان تحت الشمس والعاجزين عن هزيمة أقدارهم. "زينة" غازية الموالد في الصعيد وباعثة البهجة لنسبة من سكانه ويشتهيها الجميع محكوم عليها بالهزيمة في الحب وفي الحياة السوية وفي إقامة علاقة جنسية طبيعية مع الرجل الذي أحبته انها هدف للحب والقمع والتمييز والحب في جميع تجلياته حسب الفيلم لا يصل إلي نهاية سعيدة ولو نظرنا إلي جميع شخصيات القشاش ستجد انهم جميعا في مأزق محتوم ومحكوم عليهم أن يتجرعوا أوجاعه. البطل "محمد فراج" والمرأة التي تبنته في البداية "عفاف رشاد" رغم دورها القصير مرورا بالمرأة العاجزة التي فقدت ابنها وليس لديها مانع في تبني هذا الغريب اليتيم حتي لو أغرقت نفسها في الوهم "دلال عبدالعزيز" وابنتها "حنان مطاوع" التي تبحث حثيثا عن رجل يحميها وتعجز بدورها عن التحقق وحتي المرأة "مروة عبدالمنعم" ضحية التطرف والتعصب الديني فاقدة البصيرة محكوم عليها بالموت وترك ابنها اليتيم وبلطجي المولد الذي عشق "زينة" وظل مستعدا أن يقتل جميع من يحوم حولها أو يحوم دون امتلاكه لها إلي أن واجه مصيره المحتوم. "الهروب" الذي يمثل في بنية الفيلم المفككة العمود الفقري تمت ترجمته بصريا وعمليا في مشاهد جميلة وحركات محسوبة بدقة في أحيان كثيرة ولكنه ظل مجرد "فقرات" غير مترابطة وغير مقنعة لأن الثرثرة والرطرطة الدرامية سيطرت علي المؤلف "محمد سمير مبروك" أراد أن يشحن الخط أو الخطوط الدرامية العديدة بأقصوصات كثيرة تفتح المجال للرقص والطرب والحكايات الزائدة المتقطعة والوقفات العديدة في اللوكاندة وداخل الكنيسة.. وهنا أريد أن أتوقف قليلا أمام ما جري داخل هذه البناية المعمارية الجميلة جدا والتي كشفت دون قصد من المؤلف عن فداحة الخسارة التي طالت هذه الصروح الدينية علي يد التطرف والانحطاط والبربرية التي ابتلينا بها مؤخرا تحت حكم الاخوان غير المسلمين. ومشاهد الكنيسة والرهبان برغم النوايا الطيبة بعد حشرها في دراما الفيلم تعتبر في حد ذاتها جزءا مهما خصوصا لو كانت تعرضت للحرق مثل باقي الكنائس في الصعيد.. تبقي للتاريخ في مشاهد مسجلة.. بصرف النظر عن أداء الراهبات "هبة مجدي ورجاء الجداوي". الفيلم افتقد التركيز الدرامي ان صح التعبير. أراد صُناعه أن يمروا علي موضوعات وحكايات كثيرة دون بناء صلب مقنع واجتهدوا أكثر في دعم المشاهد الترفيهية السوقية المعتادة ب "الرقص والطرب والعنف" والتي بدونها يفقد الفيلم انتماءه لتيار السينما التجارية الرائج. حكاية واحدة كانت تصلح لعمل درامي جيد ومقبول وأتذكر مثلما تذكر كثيرون فيلم "الهروب" الذي يعتبر ضمن أفضل أفلام الفنان الراحل أحمد زكي.. محمد فراج كشف عن امكانيات تضيف إليه كمؤد مقبول وليس كمبدع ونفس الشيء ينطبق علي حورية فرغلي. لم أعرف ضرورة تقتضي وجود الجزء الخاص بالممثل القدير أحمد فؤاد سليم ولا لتوابع هذا الجزء من الفيلم رغم الصورة الجميلة لمشاهد النيل والطبيعة. "القشاش" في التقييم النهائي عمل تجاري ترفيهي لا يخلو من قيم أخلاقية رغم اعتراض كثيرين ولا من قيم درامية تطول الصراع الأزلي بين الانسان وأقداره ويتضمن رغم أي شيء شخصيات تحمل رسالات ايجابية مثل الأب "حسن حسني" الذي سقط في مستنقع التطرف واكتشف خطأه بوفاة ابنته ومثل حنان سليمان في دورها القصير جدا علماً بأنها ممثلة موهوبة ودلال عبدالعزيز في دور لا لزوم له. أتوقف أمام عنصر التصوير لأنه يستحق كثيرا من المشاهد الخارجية والداخلية تعكس لمسات جمالية وتمنح للعين فرصة للتجوال والتأمل واكتشاف الأماكن التي ربما كانت مجهولة. أتوقف مرة ثانية أمام موقف الشركة المنتجة نيوسفن واصرارها علي مواصلة الانتاج كشركة لها جذور بعيدة عن صناعة السينما. "القشاش" كما أشرت مرات ابن المرحلة الثقافية الفنية الاجتماعية التي خرج من رحمها وهي مرحلة مضطربة جدا وصعبة وانتاج يعكس الاستهانة في الامساك بالعصا من المنتصف. بقول آخر يجتهد في أن يقول شيئا مفيدا وفي نفس الوقت لا يهجر المقومات التقليدية المعتادة للترفيه الرائج.