يضم المتحف العراقي في بغداد أحد تماثيل جوديا المنحوتة في الديوريت الأسود الذي يرجع تاريخه إلي الفترة ما بين "2144 2124" ق. م. وهو يصور الملك جوديا جالساً علي كرسي وعلي رأسه ما يشبه العمامة. وعلي ثوب الملك في مقدمة التمثال كتابة سومرية تذكر ان جوديا قد شيد معبدا للإله "ننجرسو".. ان رأس هذا التمثال المعروض في المتحف العراقي ليست من الديوريت ولا هي الرأس الأصلية لهذا التمثال. لكنها نسخة من الجبس صنعت بطريقة الصب علي الرأس الأصلية للتمثال الموجودة اليوم بمتحف "بنسلفانيا" التي سبق الإشارة إليها. وقد اشتري المتحف الأمريكي هذا الرأس المكتشف في نفس منطقة "تللو" وكان يطلق عليها اسم "الرأس المعمم" حتي تأكد انها رأس تمثال لجوديا ظل باقياً في المنطقة بعد أن كشف "سارزاك" التماثيل الأخري التي أهداها إلي متحف "اللوفر".. ويبلغ ارتفاعه حوالي نصف متر. وقد تم العثور عليه بطريقة غريبة.. إذ جرفه تيار ماء النهر وكشف عنه في فترة انخفاضه. وقد قاد المنقبين إلي معرفة مكان المدينة التي كان بها هذا التمثال. ويرجح انه كان في قصر الملك أو معبد الاله "ننجرسو".. وكانت الرأس قد اكتشفت في وقت سابق ونقلت إلي "بنسلفانيا".. ويعتبر هذا التمثال أجمل تماثيل هذا الملك المصنوعة من الديوريت. وتتضمن كل مميزات الفن في عصره. كما يعد بحالته الراهنة من أهم وأروع الأعمال النحتية التي يفخر بها المتحف العراقي في بغداد. مقارنة بين التمثالين بينما حرص المثال المصري علي إظهار الملك كإله له عظمة وجبروت الآلهة. حرص المثال العراقي علي ابراز الملك كمتعبد متواضع يبتغي رضاء الآلهة.. ان الصقر حورس في التمثال المصري يقف خلف رأس الملك ناشراً جناحيه في وضع الحماية والمبايعة للملك كبديل يحكم في الناس علي الأرض.. بينما سجل الملك السومري ما قدمه للإله من منجزات علي ثوبه معلناً انه شيد له معبدا كوسيلة للتقرب لهذا الإله.. ومن هنا نلمس الاختلاف الكبير في المضمون الذي أضفي اختلافا واضحا في الشكل. أبرز عناصره هي تلك المثالية الواضحة في تمثال خفرع التي تظهره في أكمل صورة وأعظم جلسة. وتلك الطبيعية في التمثال السومري التي تبرز صفات الملك الجسدية دون مثالية أو تنميق.. كما نلاحظ ان المقعد الذي يجلس عليه جوديا ويظهر في صورته الجانبية هو مقعد بسيط يطابق المقعد الخشبي الذي كان مستخدماً في ذلك الوقت. بينما يجلس خفرع علي عرش يحمله أسدان. أما زخرفة جوانب العرش فهي تعبر عن وحدة الوجهين القبلي والبحري الممثلة في تعانق نباتي اللوتس والبردي الممثيلن للوجهين.. وهنا لابد أن نسجل الاختلاف في طريقة الكتابة عند كلا الشعبين. فاللغة الهيروغليفية لغة مصورة يتم التعبير عنها بالصور المرسومة. بينما اللغة السومرية مسمارية مجردة. لهذا فرضت السطوح المنبسطة لتستوعبها علي رداء جوديا الممتلئ. ان تمثال خفرع يمثل من الناحية الفلسفية انطباق الفكر علي المادة عندما يصور أعظم الأشياء. وهو الملك الإله. في أقسي الأحجار وأصلبها. وهو اليوريت. بينما يعبر جوديا من الناحية الفلسفية عن القيام بأشق وأصعب الأعمال وهو نحت الديوريت للتعبير عن مدي ولائه واخلاصه للإله الذي يهدي إليه هذا التمثال.. ورغم ان جوديا قد أصبح إلهاً يعبد إلا ان هذا التمثال الذي نتناوله بالمقارنة لا يمثله في هذه الحالة. واستبعادنا للآخر لأنه يصور جوديا واقفاً بينما تمثال خفرع يصوره جالساً. وإذا نظرنا إلي اليدين نجد انهما عند خفرع يعبران عن بسط النفوذ في اليد اليسري المبسوطة علي الركبة والقبض علي زمام الحكم في اليد المضمومة المرتكزة علي الفخذ. بينما اليدان عند جوديا مشتبكتان علي الصدر فيجتذبان نظر المشاهد ويصرفانه عن تأمل ملامح الوجه. ليكتشف من يراه ورع صاحب التمثال وتدينه. بينما وضع اليدين عند خفرع بعيدا عن الصدر علي عكس التماثيل السابقة قبل الأسرة الرابعة يهدف إلي تركيز نظر المشاهد علي ملامح الوجه الصارمة الواثقة. فهي ملامح إله.. وحتي الصقر خلف الرأس لا يظهر منه شئ لمن يتطلع إلي التمثال من الأمام. حتي لا يصرف نظر المشاهد عن ملامح الوجه.. انه إله أمام الناس ولكنه في حاجة إلي حماية وتأييد الإله "الصقر" في المعبد الذي كان هذا التمثال مقاماً فيه. بقي أن نلاحظ اهتمام النحات السومري بصياغة القدمين بإتقان مماثل للطبيعة في حين أهمل الفنان المصري الساقين والقدمين ولم يعطهما نفس العناية التي أولاها لبقية التمثال. لكننا نلمح حرص كلا الفنانين المصري والسومري علي الالتزام بقاعدة المواجهة. واحترام خامة الحجر. وان كان مسند عرش خفرع حافظ بدرجة أكبر علي تماسك القطعة الواحدة المنحوت فيها التمثال بينما كانت خطة الفنان السومري هي المكعبات الأربعة المتماسكة. ان قاعدة احترام كتلة الديوريت المكعبة تتضح في خطوط تمثال خفرع عندما نتابع التوازي بين خط الذراع ومسند العرش وحافة الكرسي. ثم اتجاهات الأطراف المتماثلة. ولا يحطم التماثل في التمثال إلا الاختلاف بين قبضة اليد اليمني وانبساط اليد اليسري.. بينما لم يلتزم النحات العراقي بالخطوط المستقيمة للكتلة المكعبة وانما اتجه إلي التكور والخطوط المنحنية رغم بقاء الاحساس بالمكعبات الأربعة الأصلية التي نحت فيها التمثال.