زلزال عصف بحياتي وجعلني أسيراً للذكريات والأحزان فقد رحلت عني منذ شهور من ظلت بجانبي نصف قرن من الزمان.. رحلت عني الزوجة والصديقة والحبيبة "أم الأولاد" ومنذ وفاتها وأنا أسترجع كل لحظة مرت معها.. وكيف حينما تقدمت لطلب يدها كنت لا أملك ثمن الشبكة؟! فقد كنت في بداية حياتي العملية بإحدي المطابع ما دفعني إلي الاشتراك في جمعية ادخارية لشراء الشبكة التي تليق بابنة خالتي وتعرب عن مكانتها لي داخل قلبي.. وأتذكر ان جرام الذهب وقتئذ كان ب 125 قرشا وكانت هديتي لها عبارة عن خاتم وسلسلة وثلاث أساور! ويأخذني شريط الذكريات لليوم الذي جاءني عقد عمل بمرتب مجز في الكويت ولم أمكث هناك سوي ثلاثة أشهر حيث تلقيت مكالمة تخبرني بمرضها فتركت الجمل بما حمل ونزلت مسرعا اليها فمن غيري يرعاها؟ وهي التي لم تفكر يوما ان تترك البيت وتغضب مع انه لا يوجد بيت يخلو من المشكلات وسوء التفاهم وهي التي كانت تحسن التدبير فلن تُحملني يوما فوق طاقتي ومن جانبي كنت أحاول تلبية كل مطالبها كلما استطعت وأتذكر انه حين اختلفنا كان لإصرارها علي الانجاب للمرة الخامسة لتأتي لي بالولد بعد الأربع بنات!! وهذا ما حاولت اثناءها عنه فأنا راض بما قسمه الله لنا والبنت عندي مثل الولد لكن ظلت علي قرارها حتي جاءنا بمن ملأ علينا حياتنا وسعدت بقدومه شقيقاته البنات!! رحلة طويلة قطعناها معا سعيا علي تعليم الأبناء وزواجهم تلك الرحلة التي لم تشغلها يوما عن القيام بأعمال الخير خاصة رعاية الأيتام أولئك الذين ظلت توصيني بهم حتي وفاتها. ماتت أم أولادي ودفنت في خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة وبقدر صلاح أعمالها في حياتها من صلاة وصيام وقيام وتلاوة قرآن.. بقدر ما كانت جنازتها مهيبة وحضر الصلاة عليها أفواج هائلة من أهالي بلدتنا الكرام بالشرقية ومنذ رحيلها وأنا لا أتوقف عن الحديث معها.. نعم أتحدث إلي صورها التي رحت أعلقها في كل حجرة بالبيت حتي لا تغيب عني.. كذلك لا يمضي اسبوع دون السفر اليها وزيارتها حيث يوجد مدفنها. رحلت الغالية بعد صراع طويل مع المرض وكان من بين وصيتها لي أن أعتمر لها وأسأل الله أن يعينني علي ذلك لأظل عند ثقتها بي وفياً لذكراها رافضا لأي نصح يأتيني بالزواج بمن ترعاني في شيخوختي.. قالها لي جاري منذ أيام فشعرت وكأنه يصب عليَّ ماء باردا ورحت أسأل نفسي: معقول أتزوج من بعدها وهي التي تسكن روحي ولا يتوقف حديثي إلي صورها كلما انتهيت من صلاتي أو تلاوة القرآن ويمتد حديثي إليها طويلا ولا يوقفني عنه سوي نوبة البكاء التي تعتريني. أتكلم اليها رغم ان حياتي لا تعرف الوحدة فأولادي وأحفادي لا ينقطع سؤالهم عني أو زياراتهم لي والصُحبة الطيبة التي أجدها بالمسجد تجعلني مشغولا بهموم غيري وما أردته من حديثي إلي نافذتك عن زوجتي الراحلة هو ان اقول لمن تجرع مثلي مرارة فقد الزوجة اشغل حياتك بنفع الناس واجعل سلواك في الصلاة وتلاوة القرآن فلولاهما ما تحملت فراق أم الأولاد.. لولاهما لفقدت كثيرا من توازني النفسي فما أشدها الصدمة حينما تأتي في أعز الأحباب. أ.م.أ الجيزة û المحررة نعم.. لولا انك من الموصولين بالله لخشيتُ عليك من السقوط في هوة الاكتئاب ومن فضله عليك انه منحك من البنات والأحفاد والصحبة الطيبة ما يخفف من وطأة الوحدة والفراغ التي صارت في حياتك منذ رحيل زوجك رحمها الله تلك التي سبقتها من البشائر بما يهون عليك مصيبة فراقها.. فقد أدت رسالتها في الدنيا علي خير وجه ونحسبها كذلك وكان يوم وداعها خير شاهد علي حسن صنيعها وعملها وليتنا جميعا نحظي بهذه الخاتمة التي تجعل صاحبها يوصي من حوله بالأيتام وبألا ينسوه بالدعاء له وأداء العمرة عنه..!! وأمثالك أيها الأرمل نتمني من الله أن يُكثر منهم لعظيم وفائهم وإخلاصهم لزوجاتهم سواء في حياتهن أو بعد الممات.. وكما انك كنت محظوظا في زواجك من ابنة خالتك فهي أيضا كانت محظوظة بك فقد عشت متفانيا في خدمتها ورعايتها طوال نصف قرن وكنت كريما معها ملبيا لطلباتها كلما سمحت لك الظروف. وإذا كان من نصيحة.. فنصيحتي إليك بألا تستسلم لحديث الصور وان تحاول التغلب عليه قدر المستطاع حتي لا يأخذك إلي منعطف غير مأمون عواقبه وان كان الحنين يشدك لرؤياها فانظر إلي وجوه بناتك وولدك الحبيب فستراها فيهم.. أعانك الله فراقها.. وأجزل لك الثواب والسلام عليك ورحمته وبركاته.