لم أنعم بشرف العيش كغيري من أبناء الريف الكادحين فقد نشأت في بيت بسيط وكنت الأخ الكبير علي ثلاث بنات وولد ما جعلني الأكثر قرباً من والديّ وإدراكاً بحجم ما يبذلانه من أجل إسعادنا فأبي رحمه الله لم يمنعه فقده للإبصار من المواظبة علي الذهاب إلي عمله بمديرية الإصلاح الزراعي وكانت شقيقاتي الثلاث يتناوبن مهمة اصطحابه إليه يومياً أما أمي فقد بذلت قصاري جهدها من أجل الخروج بنا من دائرة الفقر والجهل فعملت بالحقول لتقاسم أبي أعباء المعيشة وتشاركه حلمه في أن نتعلم جميعاً. لذا ما كان لي عندما وصلت للمرحلة الثانوية الفنية سوي البحث عن عمل أنفق منه علي دراستي وأخفف العبء عن والديّ فكنت أذهب للمدرسة صباحاً.. وأقف في الفرن مساء!! وفي نفس العام الذي حصلت فيه علي الدبلوم الصناعي توظفت بالسكة الحديد بمرتب ضعيف ثم سرعان ما هيأ الله لي فرحة السفر للعراق والعمل بشركة بترول بمرتب مجز. سافرت معتزماً ربط الحزام وإرسال كل راتبي لأبي من أجل بناء بيت كبير يعوضنا عن سنوات العيش في بيت متهالك لذلك كم كانت دهشتي عند نزولي لمصر متطلعاً أن أجد والديّ واخوتي قد انتقلوا للعيش في بيت جديد لكن أبي فاجأني بأنه ظل يدخر كل ما أرسله إليه من العراق ويقوم بحفظه داخل منديله "المحلاوي" لحين عودتي من غربتي والتصرف بنفسي في مالي وما كان لي أن يطول مقامي في العراق بل عدت بعد خمسة أعوام لأواصل المسيرة مع أبي خاصة مع بلوغ شقيقاتي الثلاث سن الزواج وكان أول ما شرعت فيه هو بناء البيت الذي أحلم به لأبي وأمي وأخوتي وما أن انتهيت من بناء الطابق الأول فيه حتي توفي أبي الغالي وهو يوصيني بأخواتي البنات وما هي سوي شهور قليلة حتي لحقت به أمي الحبيبة! مرحلة جديدة من السعي والكفاح كان عليّ أن أبدأها بمفردي واضعاً وصية أبي نصب عيني فسعيت أولاً للعودة إلي وظيفتي في السكة الحديد لأضع راتبي منها علي ما تبقي من مدخرات الغربة في جهاز أخواتي اللاتي تمت خطبتهن تباعاً لكن كانت تكلفة جهاز الشقيقات الثلاث مرتفعة للغاية ما استدعي مني اللجوء للاقتراض.. تلك الديون التي استغرق سدادها أكثر من 10 سنوات!! وبعد أن فرغت من تنفيذ وصية أبي بدأت التفكير في الزواج ووجدت من ارتضاها قلبي وظننت أنني معها قد ملكت الدنيا وما فيها لكن في الحقيقة غاب عن حياتنا أجمل ما ينتظروه أي زوجين فمضت السنون دون أن تظهر أي بارقة أمل بقدوم الأبناء.. ودون أن يكون ذلك بسبب مني أو منها!! اختبار لم نملك إزاءه وبعد أن طالت مدته سوي اتخاذ القرار الصعب عسي الله أن يؤتي كل منا من سعته.. ليقع الطلاق بيننا الذي يقدر ما آلامنا بقدر ما كان فيه خير كثير لنا.. فبعد انفصالي تزوجت بأخري وتحقق الأمل في أن أصبح أباً لولدي تماماً مثلما أنعم الله علي زوجتي السابقة حين تزوجت بآخر وأنجبت منه. أخذت أتأمل شريط حياتي ورأيت من الواجب إسداء نصيحتي لكل زوج وزوجة تأخرا في الإنجاب بأن يصبرا ولا ييأسا.. وأقول لكل أخ يتحمل مسئولية زواج شقيقاته البنات لا تكلف نفسك إلا وسعها وابتعد عن مجاراة عادات أهل الريف في البذخ والتفاخر.. ذلك التباهي الذي ما كنت أصمد أمامه لولا منديل أبي.. وأهل المروءة الذين صبروا عليّ حتي وفيت الدين. أما أم أولادي فما قدمته لي ولايزال يستحق مني صفحات وصفحات وأملي أن تتسع نافذتكم لها في عدد قادم فهل تسمحين لي بذلك. مبروك أحمد جلمد البحيرة * المحررة بارك الله خطواتك فكنت ممن حظي بنصيب كبير من اسمه وأنت الذي كان الإخلاص عنواناً لكل تعاملاتك.. مع أبويك.. مع شقيقاتك.. ومع زوجتك هذا الإخلاص الذي جعلك تتسلم خطاب تعيينك بالحكومة في نفس العام الذي انتهيت فيه من دراستك الثانوية ثم اعقبته الفرصة الذهبية بسفرك للعراق والعمل بشركة بترول بمرتب مجز وبدلاً من أن تبحث عن أحلامك الخاصة في الزواج والاستقرار قررت ربط الحزام من أجل بناء بيت جديد لوالديك وهو ما استشعره أبوك رحمه الله حيث ظل يدخر لك كل ما ترسله إليه في منديله "المحلاوي" متنازلاً عن حقه في التصرف بأي جزء منه تحت وطأة ظروف المعيشة الطاحنة. بارك الله في خطواتك حينما شرعت بمجرد نزولك إلي مصر في إقامة البيت الجديد لأسرتك.. وبنفس الإخلاص والوفاء التزمت بوصية والدك برعاية شقيقاتك فتحملت المسئولية رغم ما كبدته لك من صعاب وأثقلتك من ديون. بارك في خطواتك حين صبرت علي ما أصابك في تأخرك وزوجتك الأولي في الانجاب حتي كان الطلاق وهو أبغض الحلال الذي كان فاتحة خير لكل منكما أما مطلبك الأخير بإتاحة الفرصة لك بنشر تجربتك مع أم والديك فهذا يؤكد علي معدنك الأصيل وحفظك للجميل.. وها أنا في انتظار حديثك عنها يا مبروك.