تفتحت مسامعي علي صوته العالي المخيف ووعيده المستمر لأمي وقتئذ كنت لا أفهم لماذا أبي غاضب دائما؟ ولماذا حين يعود من الخارج لا يُلقي علينا السلام بل يتلذذ في النداء علي أمي مستهزءا "فينك يا أم البنات"!! في هذا الجو المشحون بالتوتر نشأت وشقيقاتي الأربع وشقيقنا الوحيد وبمرور الوقت والعمر أدركت أسباب سخط أبي وغضبه فهو حانق علي الدنيا لأن معظم ذريته من البنات وهو من الصعيد "الجواني" والرجال يتباهون بالرجال! كل هذا كان يمكننا تحمله فكم من الآباء سقطوا في خطيئة التفرقة بين الأبناء حتي لو جمعوا بين الذكور والإناث.. لكن ما لا نتفهمه هو بخل أبينا الشديد في الإنفاق علينا - نحن البنات - دون شقيقنا الأوحد رغم وظيفته المرموقة ودخله المرتفع. ذلك البخل الذي تجسدت صورته بشكل صادم حينما تقدم أحد أقارب أبي للزواج من شقيقتي الكبري هنا فقط أيقنت أن والدي يتنفس بُخلا.. فالعريس لم يغادر الصعيد في حياته. كذلك لم ينل حظا من التعليم في حين أنني وكل شقيقاتي "جامعيات" فضلا عن أننا من مواليد القاهرة ونشأنا وتعلمنا فيها. لقد أصر والدنا علي تزويجنا من أقاربه البسطاء ليس بحجة أنهم الأقدر علي الحفاظ علينا بل من منطلق أن الزواج من صعيدي "غلبان" لن يكلفه في تجهيزنا شيئا "!!".. فعل بنا أبي ذلك رغم أنني وشقيقاتي علي قدر كبير من الجمال ومشهود لنا بالأدب الجم والخلق الرفيع!! وكان نصيبي من هذه الكأس المترعة بالقهر والبخل بزوج لم يختلف كثيرا عن أبي.. زوج مستبد شحيح علي أهل بيته لا يعرف سوي ملذاته الخاصة وما يملأ معدته "!!".. وجدتني أسيرا في الدوامة نفسها التي مرت بها أمي رغم أنني جئت له بالبنين والبنات.. هؤلاء البنات اللائي زوجت ثلاثا منهن حتي الآن بعد صراع مرير مع أبيهن من أجل تجهيزهن وتزويجهن بشباب متدين يقاربهن في المستوي الاجتماعي والتعليمي.. وإذا كنت اليوم اطمأننت علي زواج ثلاثة منهن فمازال في عنقي ابنتان وولدان أكبرهما يدرس بالجامعة وهم بحاجة لمزيد من الإنفاق والرعاية في وقت لا يعبأ أبوهم بشيء فقد خرج إلي المعاش ولا يعطيني أكثر من 300 جنيه في الشهر أي ما يوازي 10 جنيهات في اليوم..! وضع كهذا دفعني للخروج إلي العمل وأنا علي مشارف الخمسينيات من العمر تاركة مؤهلي الجامعي وراء ظهري باحثة عن عمل باليومية سواء في مصنع.. أو كافيتريا لأوفر الحد الأدني لأبنائي من القوت الضروري ومصاريف دراستهم في تلك الأثناء جاءني النبأ الصادم.. فقد مات أخي الوحيد فجأة لنتجرع جميعا مرارة فقده وانتظرت من أبي المكلوم الطاعن في السن أن يرق لحالي وشقيقاتي اللائي يعشن مثلي في ظروف قاسية خاصة وهو يمتلك الكثير لكنه لم يلتفت إلينا وبات مشغولا بكيفية تأمين مستقبل ابنة أخي - رحمه الله - التي لم يتجاوز عمرها سبع سنوات..!! إنني أختنق بعد أن طفح بي الكيل وأنا أري عزوف أبي عن مد يد المساعدة لنا رغم علمه بمدي المهانة التي أتعرض لها في عملي والضيق الذي أعيش فيه وأتساءل هل من الدين ما يفعله معي زوجي وأبي بعدما استحلا بيعي لسوق العمالة الرخيصة من أجل حرصهما علي اكتناز المال؟ * سيدتي.. كيف تستمر الحياة مع زوج استعصي علي الحل.. وأب لم تفلح صدمته في فقد ابنه الوحيد في أن يقيم ميزان العدل.. أب حطمني وشقيقاتي الثلاث ومن قبلنا.. أمي!! مدام رجاء - القاهرة * المحررة: ما الدنيا إلا دار ابتلاء.. وما السبيل للتخفيف من أهوالها وأوجاعها سوي أن ينظر كل منا إلي نعم الله عليه فإذا كان الله قد ابتلاك وشقيقاتك بأب بخيل فقد أعطاكن الأم الرحيمة الكريمة التي تحملت طباع والدكم القاسية في صبر جميل.. وأنت علي مدي سنوات عمرك الخمسين صرت لصيقة بحياة البخلاء ما جعلك أكثر قدرة علي التعايش معهم عن غيرك.. وأنا هنا لا أهون أبدا من هول معاناتك أنت وشقيقاتك وما تجرعتنه من مرارة التمييز بين الذكر والأنثي.. تلك المرارة التي تسكن بيوتا كثيرة سواء بسبب آباء مازالوا يعيشون في زمن الجاهلية الأولي.. أو أشقاء استحوذوا علي ميراث شقيقاتهم بدعوي ألا تذهب أموال أبيهم إلي غريب تاركين وراء ظهورهم كل ما جاء في كتاب الله من أحكام عادلة تنظم قضايا الميراث يكفيهم منها قوله تعالي: "وللذكر مثل حظ الأنثيين". .. أعود لمأساتك لأقول كم من الصدمات نتعرض لها وتمضي دون أن تؤثر في طباعنا وخصالنا فما بالك بأبيك الطاعن في السن - ومن شب علي شيء شاب عليه - ومشكلتك يا عزيزتي ليست مع والدك بل مع زوجك الذي استعصي علي الحل - علي حد تعبيرك - زوجك الذي ركن إليك من قبل في علاج كل المشكلات التي مررتم بها وبالتالي فهو لا يري انزعاجا في أن تخرجي للعمل ليواصل بطبعه البخيل تقليص ميزانية البيت غير عابئ بما تواجهينه من مواقف مؤسفة وما تتعرضين له من متاعب صحية لا يتحملها من في مثل سنك. * سيدتي.. ليس أمامك سوي الصبر فالحياة لن تبقي علي حالها ولابد أن تتغير فها هو ابنك الكبير علي مشارف التخرج في الجامعة ومن المؤكد أنه سيسارع بالبحث عن عمل ليعوضك عن شقاء السنين.. وأولادنا هم النعمة الحقيقية التي لا يراها سوي المحروم منها.. فواصلي كفاحك من أجلهم وثقي أن الله سيقر عينك بهم ويؤجرك خيرا.. أما البخلاء فأذكرهم بقوله تعالي في حديثه القدسي "لن يُجاورني فيها بخيل".