أنا فتاة في الثانية والثلاثين من عمري, نشأت في أسرة مرموقة, وأعيش في مستوي اجتماعي اكثر من جيد, ولي شقيقة تكبرني بعدة سنوات متزوجة ولديها ولدان, وشقيق متزوج ايضا لم يرزق بأبناء بعد. ولاحظت منذ صغري ان المشكلات بين ابي وامي لا تنتهي, فما إن تهدأ مشكلة حتي تنشب أخري, وفي كل مرة تلجأ امي إلي أهلها فيتصلون بأهل ابي ويعقدون لقاء ينتهي بالصلح.. وكثيرا ما جلست افكر في طبيعة خلافاتهما وأجدها دائما بسيطة, ولكنها ان دلت علي شيء فإنها تدل علي أنهما ليس متفاهمين علي الاطلاق. ومضت سنوات طويلة علي هذه الوتيرة حتي كبرت أختي وبلغت سن الزواج, وتقدم لها شاب من وسط مختلف عنا أدبيا وماديا, فرفضه والدي لكنها تعلقت به وقررت عدم الارتباط بغيره, وتجمد وضعهما شهرا, فلا هي مخطوبة له, ولا هي أنهت علاقتها به.. وفي تلك الفترة تطورت الخلافات بين أبوي, ودخلت في طور المحاكم والقضايا بعد أن تركت امي المنزل إلي بيت أبيها.. ولم تمر أيام حتي قررت أختي الزواج من فتاها وبمفردها دون وجود أحد من الأسرة, وتحملت مسئولية اختيارها بعد أن سئمت كل شيء في بيتنا. وكان ذلك بداية انهيار اسرتنا, حيث ازداد أبي اقتناعا بأن ما تفعله أمي لا يمكن معه إقامة حياة ناجحة, وأصدقك القول بأن ما تفعله معه عجيب حقا, لدرجة أنه تصور أن كل النساء بهذا الأسلوب, وهذه العقلية التي تفتعل العراك لأتفه الأسباب, وسمعته يقول لأحد أقاربنا إنه لا يريد تزويج بناته حتي لا يجلبن له المشكلات واستشعرت بأنه أصيب بعقدة من الزواج. وقاطع أختي التي زوجت نفسها, وسببت له ألما نفسيا شديدا, لكن أمي علي العكس, ساندتها وهي في بيت أهلها, ووفرت لها مصروفا شهريا دون علمه, وعندما علم بذلك طلقها, وارتبكت حياتنا اكثر واكثر. وبدأت أختي في الشكوي من سوء معاملة زوجها ونجله, وعدم قدرتها علي المعيشة مع أهله, نظرا لاختلاف المستويين الاجتماعي والمادي لأسرتينا.. وجاءتني ذات يوم وجلست معي لمدة طويلة, ونصحتني بألا أتعجل في الارتباط, وأن التزم بنصيحة أبي. ولا أفعل مثلها, فهي تعيش مرغمة, وتتحمل تبعات اختيارها الذي اكتشفت انه اختيار سيء.. وأنها تمضي مع زوجها إلي مصيرها المحتوم بعد أن أنجبت منه ولدين. وزاد من نكدها أن أمي هي الأخري قطعت صلتها بها برغم ما كان بينهما من ود, ولم يعد لها أحد تتحدث إلا أنا, فتصرفات أمي غريبة ومتقلبة ولا تستقر علي حال أبدا, وهي قاسية القلب, وتفتقد الحنان الموجود لدي الأمهات, وكلامي عنها ليس افتراء, بل هو الحقيقة بعينها, وأذكر أنني ذهبت إلي زيارتها, وتعرضت لأزمة صحية مفاجئة فنقلوني إلي المستشفي, حيث خضعت للفحوص والعلاج وبعد عودتي إلي المنزل إذا بأمي تحاسبني علي فاتورة المستشفي والطعام الذي اشترته لي!.. وكانت هذه المرة اكثر المرات التي استشعرت فيها قسوة قلبها وغلظته, مع أنها أكثر ثراء من أبي, حيث إن لديها محلا يدر عليها دخلا كبيرا.. إنه البخل الذي لا يتجزأ, بخل في الانفاق والمشاعر.. وزاد علي ذلك أنني وجدتها لاتطيق التعامل معي بلا سبب, وأنا لا اريد منها شيئا, وأتعامل معها بمبدأ البر والمودة والرحمة, ووضعي مع والدي ليس افضل حالا, إذ أشعر بأنني متزوجة ولدي أبناء حيث ارتب البيت وأعد الطعام, ولو تأخرت بعض الشيء أسمع تقريعا من أبي حيث يقول لي دائما: احمدي ربنا انني لم اتزوج ورحمتكم من زوجة الأب. والآن وبعد أن تخطيت سن الثلاثين تضاءلت فرصي في الزواج وتقدم لي أخيرا شاب مطلق مقارب في العمر ولديه طفل, لكن أبي رفضه كالعادة, وقال انه يريدني خادمة لأمه وابنه وليس زوجة له مثل كل البنات. وبرغم كل ما أعانيه فإنه يهون علي, إلا قسوة أمي التي لا أجد لها حلا, وأتذكر دائما كلمة للفنانة الكبيرة كريمة مختار تتحدث فيها عن الأم عندما قالت: إن هناك أمهات قاسيات, وانها تعرف بعض الأبناء يحضرون اليها ويشتكون من سوء معاملة أمهاتهم, وانها لاتتصور وجود أم بهذه الغلظة والحدة مع ابنائها.. ووجدتني أصرخ صراخا مكتوما, وأقول انها أمي التي تلقي دائما علي مسامعي كلاما يصعب تحمله, ويضيق به صدري, ويبكيني علي حالي.. فلقد كبرت, وإذا تزوجت لن أنجب, وإذا انجبت فسوف يكون أطفالي معاقين, لأنني تقدمت في العمر, وانها تزيد همي وخوفي, وبنات العائلة تتحاشين لقائي, فإذا تمت خطبة احداهن تخشي علي نفسها من أن أحسدها.. وربما يكون عملي هو الشيء الوحيد الذي يخفف آلامي ويسري عني متاعبي وحزني وأخاف أن أظل علي هذا الوضع طوال عمري, لقد ضاق بي الحال وأود الرحيل. وأقول لكاتبة هذه الرسالة: يكفيك سلامك النفسي, وثقتك في الله, لكي تعيشي حياة آمنة مستقرة, فكلما رضي الإنسان بما هو فيه عوضه الله خيرا منه, والزواج رزق, والمال رزق, وراحة البال رزق.. نعم كلها أرزاق بيد الله, فإذا اراد سبحانه وتعالي بعبد خيرا ألهمه الطاعة, وألزمه القناعة, وفقهه في الدين, وعضدة باليقين, فاكتفي بالكفاف, واكتسي بالعفاف, وإذا أراد بعبده شرا حبب إليه المال وبسط له الآمال, وشغله بدنياه, ووكله إلي هواه. فلا تخشي الضيق, ولا الحرمان, فنصيبك من الدنيا آت حين يأذن عز وجل, وربما يكون تأخرك في الزواج في مصلحتك ولحكمة هو يعلمها, وما كنت تضمنين نجاح زواجك بالشاب المطلق ومعه ابن, أو من قبله, والحقيقة أن التزامك بما أشار عليك به أبوك عين الصواب. فهو الأقدر علي رؤية مالاترينه بحكم خبرته في الحياة.. أما أنه لايريد تزويجك لسبب أو لآخر فإنني أستبعد ذلك تماما, فأي أب يسعي إلي ستر بناته, وهذه غريزة معروفة في كل الآباء الأسوياء, وأنت لا تنكرين عليه رؤيته الصائبة بدليل اعتراف شقيقتك بخطئها عندما تزوجت فتاها رغما عنه, وكانت النتيجة أنها تحصد جزاء عنادها, وخروجها علي طاعة أبيها. أما أمك التي تصفنيها بالقاسية, فلكل قاعدة استثناء, فالأم مصدر الحنان الدائم لأبنائها, يلجأون إليها في كل كبيرة وصغيرة, وخصوصا البنات خوفا أو رهبة من أبيهم, لكن والدتك هي الاستثناء, ولا تدرك أبعاد تصرفاتها معك, ولا تعي الألم الذي تسببه لك بحديثها عن عدم زواجك الخارج عن إرادتك, ولاحيلة لك فيه. ومهما وجهت إليهما من كلمات النصيحة, فلن تجدي في إصلاح ما تأصل فيهما من صفات ومثالب, ولذلك فلاسبيل أمامك إلا التكيف مع الأمر الواقع, والتعامل مع هذه المسائل من خارج بؤرة الشعور حتي لا تجلبي لنفسك متاعب أنت في غني عنها, ولاتلقي بالا لتصرفات البنات المخطوبات, أو همسات البعض, فتلك العادة الرذيلة موجودة في كل زمان ومكان. والعاقل هو الذي يدرك تفاهة أصحاب تلك النظرة الخاطئة إلي من لم تتزوج حتي سن الثلاثين, فكم من زيجات ناجحة ارتبط أصحابها بعد هذه السن,وكونوا اسرا يشار إليها بالبنان وقامت حياتهم واستمرت معيشتهم لأنهم رضوا وسلموا واحتكموا إلي واقعهم. إن قيمة المرء في عقله وصبره وحلمه, والسعادة تكون في قلبه بإيمانه ورضاه, فعودي نفسك علي التسليم بقضاء الله وقدره, وتعاملي مع الجوانب الإيجابية في أبويك, وتناسي اساءات الآخرين, وكوني دائما مع الله, وستحصدين النتيجة المذهلة لهذا السلام النفسي حين يتحول الصراخ المكتوم إلي ابتسامة عريضة نابعة من القلب, وتأكدي من أن الفرج قريب, وسوف تفتح لك أبواب السعادة والرضا والقناعة بإذن الله.