لأني كنت قد قررت الاقتصار علي كتابة القصة القصيرة. وكنت قد قررت نبذ القص واللصق ومحاولة تقليد الآخرين. فقد حرصت علي شراء كتاب الدكتور رشاد رشدي عن القصة القصيرة.. دفعت من مصروفي الشهري خمسة وثلاثين قرشا كاملة. أغلقت باب حجرتي. أحاول أن أفيد من الكتاب بوعي صبي لم يبلغ الخامسة عشرة. وتعلمت البداية والذروة ولحظة التنوير. وأعجبتني بلا حد ترجمة قصة تشيخوف "لمن أسرد أحزاني"؟ الحوذي الذي يريد أن يروي للآخرين مأساة فقد ابنه. وحين ينصرف عن سماعه الجميع. يروي المأساة لحصانه. وجدت فيها مثلا للقصة القصيرة التي ينبغي أن أكتبها. ثم قرأت أعمال أمين يوسف غراب ومحمود البدوي وعبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي ويوسف جوهر وعبدالحميد السحار وغيرهم. بدت تطبيقات لنظرية رشاد رشدي. وان اختلفت بصورة مؤكدة- فارق الموهبة- عن قصة تشيخوف فلما بدأت الكتابة. جاءت محاولاتي مغايرة لوصايا رشاد رشدي. ولأعمال هؤلاء الأدباء. ثم أعارني صديق مجموعة يوسف إدريس الأولي "أرخص ليالي" قلت فور قراءتي للقصة الأولي: هذه هي القصة القصيرة. أقبلت علي بقية قصص المجموعة حتي أتممتها. تفهمت قول فاليري: القصة الجيدة هي التي لايمكن ان نغير كلمة واحدة فيها دون أن يختل بناؤها الفني كله وعرفت معني لحظة القصة القصيرة. والوحدة والتناسب. والتكثيف والنهاية المفتوحة التي تناول بها النقاد أعمال ادريس. كانت أساليب الادباء الذين كتبوا اعمالهم في ضوء مواصفات رشاد رشدي للقصة القصيرة. بل ومفرداتهم اللغوية. المتشابهة. حتي أنه يصعب التفرقة بين كاتب وآخر. وكانت أعمالهم تعتمد السرد بصورة ملحوظة. أقرب الي الحكاية علي حد تعبير استاذنا محمد مندور يفض بها الكاتب عن نفسه. النهاية واضحة. حاسمة. محددة. تدعو في الاغلب إلي نبذ الشر. وفعل الخير. وإن اتسمت قصص أمين يوسف غراب بالنهاية المتشابهة. التي تتعمد المفارقة. شيء واحد ذلك الذي.. ثم يفاجئنا الكاتب بما لم نكن نتوقع! لكن يوسف إدريس قدم في قصصه : اللحظة. الموقف. الشريحة. الومضة. سمها ما شئت. القصة التي لا تعتمد مجرد السرد. وتفرق بين القصة القصيرة والحدوتة. وبين القصة القصيرة والرواية. وتبدي المذاق التشيخوفي الرائع. الذي قد يترك نهاية القصة مفتوحة. لكنه يخلف في وجدان المتلقي تأثيرا لايزول. النقلة التي أحدثها يوسف أدريس في القصة القصيرة تشبه - الي حد كبير- تلك النقلة التي أحدثها تشيخوف في الفن نفسه أواخر القرن الماضي. فضلا عن أن أولي مجموعات إدريس قدمته كاتبا اجتماعيا بامتياز. المشكلة الاجتماعية هي الخيوط التي نسج منها أحداث قصصه. والمحتوي الذي تشتمل عليه يصدر عن الاحساس العميق بهذه المشكلة. يوسف ادريس موجة هائلة. تلتها موجات أخري متتابعة من كتاب القصة القصيرة. هم الآن فرسان الساحة. وسيمتد تأثيره بلا جدال في أجيال أخري تالية.