في الأول من أغسطس 1901 رحل عن عالمنا أجمل كتاب القصة القصيرة يوسف ادريس وكما يري ب.م.كربوشيك فإن يوسف ادريس هو - بحق الوريث الشرعي للمدرسة الحديثة التي ضمت في عشرينيات القرن الماضي محمود طاهر لاشين وأحمد خيري سعيد ويحيي حقي وغيرهم حمل نفس خصائصها المعرفية والفنية ودافع عنها من خلال ابداعاته ومساجلاته الفكرية حتي تأثرخه بعمالقة الأدب الروس: تشيخوف وجوركي وديستوفسكي هو سير في الطريق التي ارتادها مبدعو المدرسة الحديثة وان كان تشيخوف اقرب الجميع إلي عالمه. كان يوسف ادريس موجة هائلة تلتها موجات متتابعة من كتاب القصة ولعله يجدر الاشارة إلي ان معظم قصص أرخص ليالي 1954 المجموعة الأولي ليوسف ادريس قد نشرت في الصحف والدوريات قبيل قيام الثورة وتعد بداية مرحلية للقصة العربية الحديثة من الصعب تبين عمقها لو أننا اكتفينا بمجرد الشخصيات التي كانت نبضا لليالي ادريس الرخيصة. ان الخصائص التي اتسمت بها قصص الثلاثينيات والاربعينيات موجودة في قصص ادريس. الشخصيات والاحداث لا تختلف في ظاهرها عن الشخصيات والأحداث التي تطالعنا في أرخص ليالي لكن الأماني والتطلعات والأحلام والثورة والإصرار وغيرها من المشاعر كانت نبضا لقصص ادريس. قصص هذه المجموعة أقرب إلي القصائد الشعرية التي تتغني بحب الفنان لكل ما هو مصري والمشكلة الاجتماعية تحديدا هي الخيوط التي نسج منها ادريس احداث قصصه والمحتوي الذي تشتمل عليه يصدر عن الاحساس العميق بهذه المشكلة. ان التعاطف مع الفئات الكادحة وليس الغضب علي الفئات المستغلة هو نبض هذه القصص لكنك تطوي الكتاب وقد امتلأت بالسخط الذي لا حد له علي الأوضاع السلبية في المجتمع اللمحات الواعية التي تنبض بأدق التفاصيل تغني عن المباشرة. ففي قصة نظرة - مثلا - يشاهد الراوي خادمة صغيرة تحمل صينية بطاطس وتريد ان تعبر الطريق اهتزت الصينية علي رأس الصبية - فجأة - واسرع الراوي إلي نقاذها دون ان يعبأ حتي بالعربة التي كادت تدهمه لكن الخادمة كانت قد عدلت من وضع الصينية فوق رأسها ووقفت في ثبات تتفرج علي أولاد يلعبون الكرة وهم يهللون ويصرخون ويضحكون ولم تلحظني ولم تتوقف كثيرا فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها وقبل ان تنحرف استدارت علي مهل واستدار الحمل معها وألقت علي الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة. فمن الفنان قصته كل الأهداف التي أراد أن يعبر عنها بداية من الصورة الموحية للخادمة الصغيرة إلي سحق احلام الصبية في التمتع بطفولتها مثل كل الاطفال. الفنان لا يقول لنا ذلك مباشرة ولا يحمل القصة من التفاصيل بما يضفي عليها تقريرية الفنان في القضة وفي كتابات ادريس بعامة لا يضغط علي دور الفن القيادي فليس ثمة صرخة رومانتيكية أو نهاية سعيدة فرضها الفنان علي القصة وعلي القاريء بالتالي والذي كان - باعتبار مصريته - يسير في رحلة الكفاح السلبي التي وصلت داخل القدر المكتوم بالقهر إلي درجة الغليان اكتفي الفنان بأن حدد ابعاد لوحته جيدا وعني تماما بكل الظلال والايحاءات ثم وضع ريشته مدركا ان الشعور السلبي للقاريء سيولد شعورا ايجابيا يقاضي الظلم والساد ثمة حيادية اكتفت بأن ترسم اسكتشا سريعا لموقف ما يحفل بالجزئيات الصغيرة والمنمنمات فيرتفع بها إلي الكليات التي تحدد المشكلة دون انتطلب حلا إنما هي تثير في نفسية المتلقي ما يدفعه إلي التفكير وإلي التعاطف مع هذه الشخصيات من الطبقات الأدني انها تختلف عن حيادية نجيب محفوظ -علي سبيل المثال - التي تبين في الدرجة الأولي عن ادانة للاستعمار الذي كان من نتائجه المباشرة تفسخ المجتمع في داخله. أما حيادية ادريس فهي تعكس تعاطفا مع الفئات الكادحة وتعري الارستقراطية والبورجوازية الكبيرة من كل ما يسترون به انفسهم من زيف وطلاء لكنها ترسم الموقف كما هو دون اقحام من الفنان ودون ان يحدد لنفسه ومقفا فكريا أو سياسيا جهيرا يعبر عنه ابداعه. ثمة من يوسف ادريس بأنه ليس أول من كتاب عن الفلاحين في بلادنا وليس أول من كتب عن القرية ولكن قيمته الحقيقية هي انه عندما كتب عن القرية قلب تربتها وعرف باطنها قبل ظاهرها فخرجت في أدب قرية مصرية بحق وحقيق انه - في تقدير الناقد - يستحضر الريف ويقطر روحه ويحفظها حية إلي الأبد تحت عدسة الفن السحرية المتعددة الألوان. يوسف ادريس يضغط علي المشكلات الاساسية في حياة الفلاح - والمواطن المصري البسيط - مثل العلاقة بين المدينة والقرية والحاجة إلي الطعام والحاجة إلي تحقيق رغبات المرء الجنسية والوجدانية والكراهية للسلطة والخوف من الموت. الخ ثمة المدرس الذي يجد آمال نفسه التي تبددت في شاب من طلبته اصبح طبيبا وابواسماعين الذي يستطيع - بمفرده - ان يزيح ظل الهجانة الثقيل بعيدا عن ابناء قريته ولاعرابي الذي يراهن علي التهام مائة ثمرة تين شوكي دفعة واحدة ومشي في الطريق وبدايات المغص تلوي احشاءه كل ما يهمه انه تغذي واسكت عنه - ولو هنيهة - مسامير الجوع وليكن بعد ذلك ما يكون وعبدالقادر طه الذي استشهد بأيدي رجال الملك السابق لأنه أعلن احتجاجه علي فساد الوضع والبرعي الذي امسك بسماعة التليفون لأول مرة في حياته وداعبته أمنية نفذها الفور طلب المركز وقال بحرقة: يلعن.. يلعن أبوك يا مركز! وشبراوي الذي كانت القاهرة في مخيلته شيئا جميلا وخطيرا فيه عذوبة الحواديت وروعة الاساطير ورهبة المجهول حتي الأسطر الأولي من قصة البرتو مورافيا الطفل يفيد منها الفنان - ولعله لم يقرأها - في قصة ارخص ليالي هؤلاء الذين يعانون غياب الكهرباء وانعدام أية وسيلة للتسلية فيلجأون إلي الجنس باعتباره ارخص الليالي عندما جاءت السيدة الفاضلة من جمعية رعاية الطفل لزيارتنا كما تزور غيرنا سألتنا: لماذا ننجب اطفالا كثيرين إلي العام فما كان من زوجتي التي كانت في ضيق في ذلك اليوم إلا ان قالت لها الحقيقة البسيطة: لو كانت لدينا المقدرة لذهبنا إلي السينما في المساء.. ولكن هذا هو الحال فلأننا لا نجد المال. نذهب إلي السرير وهكذا يولد الأطفال: أما المقومات أو الخصائص الفنية فقد كتب طه حسين عن يوسف ادريس بأنه يملك من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء ما ينعكس في مجموعته الأولي ارخص ليالي التي نشر غالبيتها قبل قيام ثورة .1952 ولعل النقلة المرحلية التي احدثها يوسف ادريس في القصة القصيرة العربية تشبه تلك النقلة المرحلية التي احدثها تشيخوف في القصة القصيرة الروسية وفي العالم انها نقلة أقرب إلي الانقلاب الابداعي الذي غير من مذاق وتكنيك القصة القصيرة بعامة.. وقرأ الناس - لأول مرة - قصصا عن متاعبهم الصغيرة التي يشكل تعددها مأساة الحياة لكل إنسان وبدأوا يلملحون في السطور ومضات الأمل التي يشكل التماعها مستقبل الإنسان.